مسقط- شؤون عُمانية
لا يخفى على أحد أن بلوغ سن التقاعد يعني الاستغناء القانوني عن خدمات كل من بلغ هذه السن، بكل ما يحمل من خبرة، وبكل ما يحمل من شعور بقدرته على العطاء، وبحاجته إلى الأجر الوظيفي، وبما يحمل العمل من حاجة إليه، بل إنه في سن قد تكون أسرته أكثر احتياجًا إلى عمله، فيصير طاقة معطلة، لا يستفيد به بلده، ولا يستفيد أحد من جلوسه على مقاعد المتقاعدين.
ويعد العمل على إصلاح أنظمة التقاعد وإعادة صياغتها؛ من المسائل الأكثر تعقيدًا في أي دولة، نظرًا لارتباط الموضوع بأبعاد اقتصادية تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الكلي للدول، وقدرتها على تحقيق النجاح في سياساتها المالية والاقتصادية، مع عدم المساس بالمتطلبات الاقتصادية والتنمية الاجتماعية للأفراد والعائلات. وعادة ما تتطلب هذه الجهود مشاركة خبراء محليين وعالميين في إدارة هذا الملف، ويستغرق إنجاز هذه المهمة الكثير من الدراسات والنقاشات المستفيضة، التي قد تستغرق سنوات من العمل والمراجعة.
وقد شهد كثير من دول العالم؛ وخاصة في أوروبا؛ تعديلات وتحديثات على أنظمة التقاعد بما يشبه حملة الإصلاح الشاملة التي لم تتوقف عند رفع سن التقاعد في بعض الدول مثل فرنسا؛ التي رفعت سن التقاعد من سن 62 عامًا إلى سن 64 عامًا؛ الأمر الذي يعني زيادة سنوات العمل في فرنسا. وتبعت هذه الخطوة إجراءات مشابهة في دول أوروبية أخرى، فقد أدرك صناع القرار في هذه الدول أن سن التقاعد المعمول به سابقًا لم يعد ممثلًا للتغيرات الديموغرافية التي تشهدها أوروبا بشكل خاص والعالم بشكل عام.
وتُظهر التقارير الاجتماعية والمتخصصة في شؤون العمل والتقاعد؛ أن سنوات العمل في الدول الأوروبية، قبل الوصول إلى التقاعد؛ تتراوح في أقلها بين 31,8 سنة في إيطاليا، وتصل في أعلاها إلى 46,3 سنة في أيسلندا، بينما تقدر سنوات العمل في فرنسا بـ 35,4 عامًا. وتختلف السنوات بين الرجال والنساء في أوروبا، وتقدر سنوات عمل الرجال ب38,6 بينما يصل معدل سنوات العمل للنساء إلى 33,7 عامًا.
وتشير بعض البيانات والتقارير العالمية أن الدول الأوروبية؛ منها ألمانيا وإيطاليا والسويد؛ عملت خلال السنوات الـ25 الماضية؛ على إعادة النظر في أنظمة التقاعد ومواصلة تحديثها من حين إلى آخر، ولم تقف الإجراءات الإصلاحية عند رفع سن التقاعد أو زيادة سنوات العمل فحسب، بل شملت تحفيز المواطنين على زيادة إسهاماتهم في برامج الادخار المختلفة، وكان الهدف من ذلك إعادة التوازن لصناديق التقاعد، وتعزيز التدفقات النقدية.
وينصح الخبراء العالميون في هذا المجال جميع دول العالم؛ بضرورة مراجعة برامج التقاعد من وقت إلى آخر بشكل متواصل، لضمان إدارة صناديق التقاعد بأفضل طريقة تضمن استمرارية الصناديق، واستدامة مواردها بشكل يضمن قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها المستقبلية. ويؤكد الخبراء على أهمية دراسة المعطيات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية في كل بلد، بشكل مستمر، والعمل على تحديد سن التقاعد حسب هذه المعطيات. كما ينصح الخبراء بربط سن التقاعد بارتفاع متوسط العمر المتوقع في هذه البلدان.
وفي الوقت الذي أظهرت الدول الأوروبية قدرة جيدة على التكيف مع المعطيات الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية في إدارة ملفات التقاعد، وُصفت السويد بأنها من أكثر الدول الأوروبية نجاحًا في رسم السياسات ووضع الأنظمة المرنة للتقاعد، والقادرة على التكيف مع المتغيرات. ويُنظر للتجربة السويدية على أنها من أنجح التجارب الأوروبية؛ نظرًا لقدرتها على توفير مظلة للحماية الاجتماعية للفئات المختلفة في المجتمع، والأهم من ذلك قدرتها على وضع برامج اقتصادية وفرص عمل للمتقاعدين، تعيد دمجهم بسوق العمل المحلي، وتوفر لهم فرصًا جديدة بعد التقاعد.
ضرورة حتمية
وإذا كانت الدول الأوروبية قد حرصت على إدارة ملف التقاعد بالدراسة والبحث والتعديل من وقت إلى آخر، فقد شهد العالم الكثير من الأمثلة على الإخفاق في التعامل مع هذا الملف، ولعل التجربة اليونانية تعتبر من أحدث هذه التجارب العالمية. فقد عرف نظام التقاعد اليوناني بأنه من “أكرم” أنظمة التقاعد في أوروبا، من حيث نسبة راتب التقاعد، ومن حيث سن التقاعد، إلا أن هذا النظام ألقى بنتائج كارثية على اقتصاد اليونان، فقد وضع أعباء ثقيلة على الأنظمة المالية في اليونان، وجعل الدولة أكثر عرضة للصدمات الاقتصادية الخارجية؛ التي بلغت ذروتها في عام 2008؛ ومن بعدها أزمة الديون الأوروبية، مما أجبر الدولة على اتخاذ قرارات اقتصادية قاسية، وأجبرت على اتخاذ إصلاحات هيكلية وجذرية في أنظمة التقاعد.
تؤكد التجربة الأوروبية على أن إصلاح أنظمة التقاعد حاجة حتمية لكل دولة، وهي ليست حاجة أوروبية فقط، فنحن نعيش في عالم منفتح مترابط، وإذا هبت رياح التغيير في قارة فسوف تتأثر دول العالم من جراء هذا التغيير، ومن الواضح أن هناك دروسًا مستفادة من هذه التجارب، أولها وأبرزها ضرورة مراجعة البرامج التقاعدية، وربط هذه المراجعات بالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، ويجب أن تضع هذه المراجعة في سلم أولوياتها؛ تحقيق التوازن بين الاحتياجات الاقتصادية للدولة والاحتياجات الاجتماعية للأفراد والأسر، ويجب أن تتضمن الإجراءات الإصلاحية بناء مظلة حماية للأفراد والأسر الأضعف في المجتمع، ضمن حزمة الإجراءات الاجتماعية التي تحيط بموضوع التقاعد، حتى يظل مجتمعنا متلاحمًا دائمًا، ويصير من قوي إلى أقوى.