أحمد الراشدي
شغلت قضايا حقوق الإنسان حيزا مهما من النقاشات الفكرية والسياسية والثقافية على مرّ العصور، سواء كانت هذه النقاشات تحت أطر قانونية او إنسانية او اجتماعية او حتى فكرية أو عقائدية، باعتبار أن تطبيق مبادئ حقوق الإنسان في الدولة يقاس بمدى التزامها واحترامها لهذه المبادي والحقوق، فهناك تقريبا شبه إجماع على مسألة مبادئ حقوق الإنسان، ولقد تعاظم الاهتمام الدولي بهذه المسألة، خاصة في الفترة الأخيرة التي كثرت فيها التجاوزات المتكررة والممنهجة لهذه الحقوق؛ فبعدما كانت مجرد قضية داخلية تتكفل بها دولة ما في حدود قوانينها وأنظمتها، أصبحت ذات قيمة عالمية تتجاوز كل الحدود الجغرافية.
ومن هذا المنطلق ظهرت عالمية حقوق الإنسان في عالم يتميز باختلاف ثقافي وعقائدي كبير، حيث برزت اتجاهات متباينة حول إشكالية تقبل هذه الحقوق من عدمها بما يتناسب والخصوصية الثقافية؛ أولها الاتجاه الذي يدعو إلى عالمية الحقوق وتوحيد تطبيقها على جميع البشر دون استثناء أو تمييز، وثانيها الاتجاه المتمسك بالخصوصيات الدينية او الثقافية، والذي يدعو إلى تطبيق حقوق الإنسان على نحو يتوافق ويضمن احترام الخصوصيات التي تميز كل الشعوب والمجتمعات، وأخيرا الاتجاه الذي ينادي بالتوفيق بين عالمية حقوق الإنسان والخصوصية الثقافية.
ويتضح أهمية هذا الموضوع في أن جدلية حقوق الإنسان باختلاف ثقافات الدول لا تعاني من صراع في المفاهيم أو الرؤى بقدر ما تعاني من توظيفات سياسية لهذه المفاهيم من قبل فئة معينة دون أخرى وإقحامها من منظور حقوق الإنسان.
ويأتي هذا التوظيف المسيّر باسم العالمية تارة في أشكال انتقائية ومعايير مزدوجة وتدخّل في شؤون الدولة الداخلية من قبل بعض الدول لتحقيق مصالح معينه، وباسم الخصوصيات والتميز تارة أخرى، في شكل ذرائع تستخدم لانتهاك أو للانتقاص من حقوق الإنسان والمواطن في هذه الدولة.
ومن هنا بات الأمر ملحاً في مدى أهمية إيجاد نقاط التشابه والتقاطع بين المفهومين، بما يسمح بالممارسة والتمتع بحقوق الإنسان العالمية التي يُعترف بها للإنسان لمجرد كونه إنسانا، بطبيعة الحال مع عدم إغفال القيم والمبادئ الدينية والثقافية والاجتماعية التي تمثل خصوصية الإنسان في كل مجتمع على حده، دون الإخلال بالمفهوم الأسمى لكرامة البشر وحرياتهم.
والمتتبع للآلية التي يتم من خلالها صياغة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية من قبل الامم المتحدة، يجد أن الدول العربية تغيّب نفسها من فرق العمل التي تقوم بإعداد مسودة هذه الاتفاقيات، حيث لا يشارك مندوبو الدول العربية في صياغة مسودة مشاريع الاتفاقيات في خطواتها الأولى ويتركوا الأمر لمندوبي بعض الدول التي يختلفون معها في الثقافة والدين والعرق وكذلك العرف الاجتماعي، ويتم صياغة هذه الاتفاقيات بشكلها النهائي لكي تتناسب مع جميع الدول بمختلف الديانات والأعراف والقيم والمبادئ، ومن هنا اكتسبت هذه الاتفاقيات صفة أنها تحوي على حقوق عالمية بمعنى التأكيد على عدم قابلية خضوع حقوق الإنسان لأي استثناء أيا كانت طبيعته، مما يطرح التساؤل حول ما إذا كانت جدلية العالمية والخصوصية إغناء لمسار حقوق الإنسان أم انتقاصا منه؟
كل هذه الجدليات المطروحة والتي قد تتمدد أحيانا وتنكمش أحيانا كثيرة، مردها هو عزوف المجتمعات العربية والإسلامية بشكل خاص عن المشاركة في إعداد وصياغة مسودة مشاريع الاتفاقيات، واكتفت هذه الدول بلعب دور المتفرج واستخدام سلاح التحفظ لبعض البنود الخاصة ببعض الاتفاقيات متى لزم الأمر ذلك أثناء المصادقة أو الانضمام والإبقاء على البنود التي تتواءم مع دساتير هذه الدول وبما لا تتعارض مع تعاليم الشريعة الإسلامية، وهو بطبيعة الحال إجراء صحي جدا للقضاء على هذا الجدل وقبول ما يتوافق ورفض ما هو غير ملائم من حقوق للطبيعة البشرية المسلمة.
وفي قادم الوقت من وجهة نظري، مثل هذا الجدل سوف يتلاشى في ظل التقدم المعرفي للدول إزاء هذه الثقافة، ومن مظاهر هذا التقدم هو وجود بعض من خبراء الدول العربية في لجان الخبراء المعنية بالآليات التعاقدية، وعلى سبيل المثال دخول الدكتورة ثويبة البروانية من سلطنة عمان كأول خبير دولي في عضوية لجان الخبراء، الأمر الذي يعد تطورا ملحوظا في فكر المعنيين بسلطنة عمان حول أهمية الانخراط في هذه المنظومة الدولية ومحاولة حلحلة هذا الجدل والانخراط في العمل الأممي المتعلق بحقوق الإنسان، مع عدم إغفال الطابع الاجتماعي والثقافي وقبلهم الطابع الديني للدولة، وبما يتماشى مع النظام الأساسي للبلد.