الكاتب: محمود بن جمعة الرحبي
في عام 1784 طرحت صحيفة بريلينتش مونانشرفت(1) (Berlinche Monatschrift) -التي كان لها صدى كبيرا في برلين آنذاك- سؤالا على قرّائها المثقفين، حول تعريف التنوير، وكانت ردود الفعل متباينة الاتجاهات، ومن أبرز من أجابوا عن هذا السؤال الفيلسوف اليهودي موسى مندلسون (1729- 1786 )، وإيمانويل كانط (1801-1724) في مقالته الشهيرة “التنوير”.
يرى مندلسون أن تعريف التنوير يتلخص في نشر المعرفة العلمية والعقلانية، وتدريب الإنسان على استعمال عقله. أما كانط فكان ردّه أكثر دقة وأشمل مضمونا، حيث قال: “أن تكون عند الإنسان شجاعة في أن يعرف”، وأن يكون الإنسان حرًا في استخدام عقله دون وصاية من أحد”.
يُعرّف كثير من المؤرخين بأن التنوير ثورة فكرية، ظهرت في القرن 18، قائمة على إدارة شؤون الحياة الإنسانية، عن طريق النور الطبيعي (العقل)، هذا النور الطبيعي يجب أن يكون متحررا من الخرافات والعادات والأحكام المقيدة له، ومعاديا لكل تزمّت وتعصّب ديني، وباحثا عن كل تقدم وتطور وحرية، يقول البروفيسور دانييل بروس -أحد المتخصصين الفرنسيين في عصر التنوير: “التنوير ثورة فكرية شاملة وقد ابتدأت في أوروبا بعد عام 1650 عندما جرأ فلاسفة أوروبا على نقد الأديان، خاصة الدوغمائية الكاثوليكية والدوغمائية البروتستانتية، وفي طليعتهم: هوبز، وسبينوزا، وليبينتز وبايل، الذين خرجوا جميعا من معطف ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة (2)” ، فلا بد أن نَتَعَرّف الأرضية التي أفرزت لنا ديكارت والديكارتيين وفلاسفة التنوير كفولتير، وديدرو، وروسو، وكانط، ومعرفة الأسباب وخلفية الأحداث تجعلنا أقرب لفهم ماهية عصر الأنوار.
في القرون الوسطى كانت أوروبا غارقة في بحرٍ من الظلمات؛ بسبب سلطة الكنيسة على الشعب، فكانت تمنع أي شيء يخالف الكتاب المقدس وإن خالف العقل، حتى أن أحد القساوسة أقرّ أن أساس كل علم الكتاب المقدس وتقاليد الكنسية، وكانت محاكم التفتيش تقيد وتمنع وتعذب كل مبتدع عن تعاليم الكنيسة، حاملةً شعار: “أطفئ مصباح عقلك واتبعني”.
حاول القديس توما الإكويني(1274-1225) التوفيق بين العقل والنقل على غرار ابن رشد بعد أن انتشر الفكر الأروسطي، وفكر سان أوغسطين المحافظ جدا على التراث المسيحي، ففصل مسائل العقل المتمثلة في الفلسفة عن مسائل اللاهوت: كخلود الروح أو النفس؛ كي لا تتصادمان.. أما أبيلار(1142-1074) المتأثر بابن ماجة دعا للتسامح والتعرف على الآخر من خلال (الحوار بين فيلسوف ويهودي ومسيحي)، في وقت كان التسامح فيه كلمة شائنة.
بدأت جذور عصر التنوير في أوروبا بالظهور بعد ترجمة أعمال بعض فلاسفة العرب والمسلمين، منهم: ابن سينا، وابن رشد، والفارابي، وغيرهم… بالإضافة إلى ترجمة أعمال أرسطو إلى اللاتينية؛ مما أدى إلى تكوّن تيار فكري جديد يعرف بـ “الرشدية”، الذي تبنى فلسفة أرسطو وابن رشد، حتى أصدر المجمع الكنسي عام 1210 قرارًا بمنع قراءة كتب أرسطو في البداية، وخاصة كتب الطبيعة وما وراء الطبيعة؛ لأنها مخالفة لتعاليم الكنيسة، وكذلك منعت أعمال ابن رشد. (3)
كانت الأصولية المسيحية مسيطرة على الأوضاع آنذاك، فالكتب المقدسة كانت تدرس في الجامعات، وكان رجال الكنيسة بيدهم السلطة، وكانت محاكم التفتيش تقوم بتطويق حرية الشعب عن طريق القمع بالقتل أو بالتعذيب؛ مما أدى إلى ظهور بعض المتمردين الذين وقفوا في وجه هذا الاستبداد، ومن أبرزهم: إيرازموس (1536-1466) وهو أعظم علماء الإنسانيات في وقته ومن رواد الحركة الإنسانية humanismفي أوروبا، وضع إيرازموس بيضة الإصلاح في أوروبا وتعرض للاضطهاد على يد الكنيسة في نوتردام لاعتارضه على احتكار فهم الدين على الكنيسة ومؤسساتها، وبين ذلك في أعماله خاصة كتابه الأشهر: (في مدح الحق)، سخر فيه من محاكم التفتيش، ومن الباباوات؛ فمنعت أعماله في الدول المستبدة كإسبانيا، وتعرّض تلاميذه للحرق والسجن والملاحقة، وتحول أتباعه بعد ذلك إلى المذهب البروتستانتي ثم فروا إلى الأراضي البروتستانتية. أما المفكر الإنسانوي الكبير توماس مور (1535-1478) وهو صديق إيرازموس لقي حتفه قبل موت صديقه بسنة بعد أن نشر كتابه: (يوتوبيا)، الذي لا يقل عن كتاب صديقه من أفكار تدعو للتسامح والحرية، وتبرر تنوع الأديان بين البشر؛ فكانت نهاية مور بشعة للغاية، فقد قطع رأسه لتبنيه معتقدات مخالفة.
بدأ الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر] (1546-1483) بعد أن سادت سلطة البابا الانتهازية، فتصادم مع الكنيسة الكاثوليكية رافضا سلطتها مناهضا الفاسدين من رجال الدين، فنشر حوالي أكثر من خمس وتسعين رسالة للشعب الألماني، تتضمن اعتراضاته على صكوك الغفران، وكذلك اعترض على القربان المقدس وتعريف الكنيسة ورفض الاعتراف بالمحاكم الأسقفية. كما أنه رفض ما تمتهنه محاكم التفتيش من اضطهاد للمهرطقين، قائلا: “لا ننتصر على الهراطقة بالنار بل بالكتابات”، ولكن تغيرت مواقفه بسبب حرب الفلاحين (1524-1526) مفسرا الكتاب المقدس على أنه لا يحق للوعّاظ إكراه وقمع المهرطقين ما يحق للسلطة الزمنية، فارتد عما تبناه قبل عشر سنوات، على الرغم من الصدى الواسع الذي حققته ثورة لوثر في ألمانيا وما أشاعه جون كالفن في فرنسا إلا أنه خلف صراعات طائفية دموية بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين، راح ضحيتها مئات آلاف القتلى لعقود طويلة من نتائجها مجزرة سان بارتيلمي في تولوز عام 1572 التي أبيد ما يزيد عن 30 ألف بروتستانتي على يد الكاثوليكين المتعصبين، وكذلك حرب الثلاثين عاما (1618-1648) التي تشكلت كصراعات سياسية في معظم أرجاء أوروبا فضلا عن إعدام المهرطقين؛ مما أثار سخط وانتقاد عدد من الإنسيين الإيطاليين.
المصادر:
[1] التنوير، دوريدا أوترام
[2] الانسداد التاريخي، هاشم صالح
[3] مدخل إلى التنوير الأوروبي ,هاشم صالح