أميرة الشحية
يُعنى “علم آثار الألم” بتقصي أثر الألم في بقايا الرفات البشري. إذ يُستنطق الجسد عن آخر ما عهده. قبل أن ينقب الباحث في قلب قبرٍ، يقف كما وقف محمود درويش على أطلال مدينته ” بلا ذاكرة لتهديه”، وبعد أن يزيح أول جلمود صخري يكون قد عاد بالزمن إلى الوراء، لحظة دفن أحدهم قبل آلاف السنين، عندما تحلق حوله محبوه، ولربما انتحبوا طويلاً قبل أن يهلوا عليه التراب ويمضوا. حتماً لم يكن الجسد بانتظار من يوقظه. أضحى بمقدور علماء الآثار اليوم تحديد سبب الوفاة، وما إن نتجت عن صراع أو مرض، فعناق الحبيب دليلٌ، كما أثر ضربةٍ في الرأس. غير أن هنالك نوعاً مخبوءاً من الألم، قد لا يجد الآثاري لقاه المادية متجسدة. لكن هنالك يد نحات حفرته.
في سبيل الموضوعية العلمية في التعاطي مع الفن الصخري بوصفه مادة أثرية، يعمد جل المختصين الآثاريين إلى نزع صفة الفن عن هذا المادة، مقتصرين في ذلك على اعتبارها بيانات وصوراً مرئية تعكس الجوانب الاجتماعية والاقتصادية لمنفذيها. لربما أستطيع طرح فكرتي المناقضة حول ذلك هنا، وبعيداً عن قاعة المحاضرات بقسم الآثار.
لطالما تخيلت مشهد البدوي المرتحل وحيداً، وهو يقرر الركون إلى مكان ما، لحفر نقشٍ نحاول فك أبجديته اليوم، مالذي دفع هذا البدوي لصنع إزميل حجري يطرق به سطح صخرة ملساء على طريق رحلته الجرداء؟ ولماذا اختار الصخر كمادة لفنه دون غيره؟ هل كان طرقه لباب السماء أم إلى قلب المحبوب؟
يجيبنا عن ذلك، الباحث في النقوش الثمودية ممدوح الفاضل بمجموعة من النقوش المكتشفة في حائل بالمملكة العربية السعودية. حيث تتناثر مواقع الاشتياق هذه على طرق الرعي وفي قمم الجبال المعزولة كاشفة عن لحظات أوقفها الزمن. ولعل أشهرهم هو العاشق أجا، الذي باح بلوعته واشتياقه للحجر الأصم. وهنالك من اكتفى من عشقه بالكتمان دون التصريح باسم المحبوبة فيما نصه “لبكر وعشق فكتم” و” لعتيفة وتشوق فكتم”، وقد يكون هذا التكتم عائداً للعرف القبلي الذي يعارض زواج الحبيب من محبوبته1. غير أن عتيقاً عبرعن المودة ناقشاً في مواضع عدة “مودتي لود، وأنا عتيق”. تجاوزهم في ذلك كل من العاشقين بلال ومحبوبته أرخ، الذين تبادلا رسائل المحبة على صخور جبة2.
جدير بالذكر أن أحمد الجلاد ناقش مؤخراً مجموعة من النقوش الصفائية التي سبقت ظهور الإسلام في بادية حوران. إذ ذكر 93 نقشاً متبوعاً بصلاة اشتياق. يختمها الكاتب بطلب الأمن أو لم الشمل مع الأحبة3 . مثلت هذه المناجاة بوحاً للآلهة لترحم القلب الكسير. كما لحق ببعض هذه الصلوات استجداءٌ للمطر ريثما يلتقي المشتاق بمن تعلق به.
قليلٌ ما نعرفه عن صحاري شبه الجزيرة العربية قبل بعثة النبي محمد، ومعظم تصوراتنا عن ما أطلق عليه بالعصر الجاهلي لم تصلنا من منبعها الأساسي. شبه الجزيرة العربية أراضٍ خصبة بالمشاعر، اصطفى منها البدوي مواضع أثيرة لينفخ فيها روح اشتياقه. لكن ما وصلنا من التاريخ المكتوب انتزع منها القصة وأعادها صحراء قاحلة منزوعة السرد والسياق. تضاهي هذه الصلوات العذبة ما دون من إرثٍ شعريٍ في العصر الجاهلي، فهل من قاريء لها؟
1- الحياة الاجتماعية عند الصفويين والثموديين كما صورتها كتاباتهم (2020)
2- تغريدات من حساب الباحث ممدوح الفاضل في تويتر.
3- Al-Jallad. 2022. The Religion and Rituals of the Nomads of Pre-Islamic Arabia: A Reconstruction based on the Safaitic Inscriptions