الباحث: عمر غابش عبيد النوفلي/ سلطنة عمان
يلعب مفهوم الأمن الثقافي دورا محوريا في إرساء دعائم الأوطان؛ إذ يمثل هذا المفهوم حصانة استراتيجية قومية في احتواء تيارات العولمة وما تحمله هذه التيارات من متغيرات تهدف في إحداث مجموعة من التحولات الجذرية في الثقافات الوطنية وأزمة تغيير الهويات إلى ما يعرف بالكونية أو الكوكبة. ولا ريب في أن نطاق العولمة قد اتسع اتساعا مطردا وذلك بعد سقوط النظام الاشتراكي في عام 1991م وتفرد القطب الأحادي وهي الولايات المتحدة الأمريكية في الإمساك بدفة القيادة العالمية من خلال القوة الناعمة التي مكنت الولايات المتحدة الأمريكية في إحكام سيطرتها على العالم بفضل الثورة التقنية والمعلوماتية والأعلام والوسائل التكنولوجية دون الغزو العسكري مدفوعة بسياسة العولمة التي تنطلق من فرضية استراتيجية تسعى في إلغاء الحدود بين دول العالم وتحرير أسواق الاقتصاد إلى حرية انتقال رؤوس الأموال دون قيود أو حواجز مع دخول الشركات متعددة الجنسيات في البلدان وحرية التبادل الاقتصادي ونحو هذه المشاريع الصناعية التي كانت تهدف في جوهرها إلى زيادة مستوى الرفاه المعيشي بين الأفراد على النطاق الاجتماعي، والحقيقة أن العولمة أدت في نهاية المطاف إلى إخفاق مشروع نهضة الدولة الوطنية خصوصا في دول العالم الثالث بما فيها دول الوطن العربي والعالم الإسلامي حيث أصبحت هذه الدول بالتبعية تميل إلى الدول الصناعية الكبرى المهيمنة على السياسات العالمية الاقتصادية وبذلك انتفاء قدرتها في النهوض والاتكاء على مواردها الحيوية؛ إذ أن الانفتاح على الآخر في أطار العولمة ومحاولة المشاركة في هذه القرية العالمية دون امتلاك الممانعات الحضارية التي تقلل من الآثار الجانبية قد يحمل في طياته مشكلات خطيرة على المجتمعات النامية وذلك لحجم الفوارق المادية والقيمة بين الدول الكبرى التي تحاول بسط نفوذها على الدول الهامشية المستهلكة التي بدورها تسعى يائسة في التفاعل الحضاري والخروج من شرنقة التبعية بيد أن هذا الأمر بالضرورة قد يؤدي إلى الذوبان والانصهار في معامل الدول الكبرى لعدم تحقيق الدولة الوطنية عوامل الاكتفاء الذاتي أو الداخلي الذي يجنبها الانصهار والتشظي في هذه القرية.
ولاشك في أن جاهزية المشاركة والتفاعل في ركب الحضارة الكونية لا يمكن له أن يتحقق دون الاتكاء على الآليات التي تكفل للشعوب نهضتها وتحقيق اكتفائها الأمني الداخلي للحيلولة من انبثاق العواصف الغربية التي ما فتأت تفتك بالدول الضعيفة عبر تصديرها للصالح والطالح دون الاكتراث بالآخر بحجة الكونية ذلك أن القضية الكبرى والخطيرة في أن العولمة نفسها لم تخرج من نطاق الدول الكبرى العظمى فهي لم تتعولم؛ أي أنها لم تدخل في نطاق الكونية؛ وإنما ظلت محصورة في القطب الأحادي المهيمن ( الأمركة) على العالم فهي لم تزل في الدائرة المركزية ولم تخرج منها بل غدت تدور في فلكها الأوحد لتنتج بذلك أنماطا لم يألفها الجنس البشري أدت إلى نتائج وخيمة وأصبحت تشكل تهديدا على الأمن الوطني. وأبرز هذه التهديدات ما يعرف اليوم بالعولمة الثقافية التي تسعى في تغريب الشعوب عبر مؤسسة من المبادئ المادية والقيمة التي تهدف إلى تذويب الثقافات المحلية وصهرها في بوتقة النموذج الغربي الأوحد الذي يصلح -في حد زعمهم – للمشاركة الفاعلة في بناء الحضارات.
إن مفهوم الأمن الثقافي أصبح اليوم مسألة ملحة في ظل الغزو الثقافي الغربي الذي يسعى في نمذجة العالم العربي الإسلامي واختراقه ومحاولة إدماجه في إطار الثقافة الكونية التي غالبا ما تُصدّر إلى الإنسان العربي عبر النموذج الغربي من خلال الوسائل الناعمة التي تمتلك مقومات الهيمنة والتأثير وبالتالي الاستغناء عن الوسائل العسكرية التي كانت تستخدم في الحروب قديما أو حديثا للقمع والإخضاع ومصادرة الفكر والقضاء على مقومات النهوض والنجاح. ولعل مسألة الثقافة من المسائل الحساسة جدا إذ أن الثقافة لا تمثل حيزا هامشيا في كيان الدولة الوطنية ( الأمة) فهي المحرك الحيوي أو الدينامي للشعوب وهي الرصيد المعرفي والفكري الذي ينسجم مع المراحل الحضارية للتكوين الإنساني منذ النشأة وما يتعاور عليها من تأثيرات ومؤثرات تسعى في تشكيل هوية الإنسان انطلاقا من اللغة والدين والفلكلور والتنشئة الاجتماعية والتاريخ والعادات والطقوس والتراث المادي والعمران والملبس والمأكل والأفكار الإيديولوجية وعناصر الإنتاج المعرفي التي تنطلق من استيعاب المعطى الحضاري للشعوب وهي بالأحرى منظومة من القيم والأخلاق تنسجم مع فلسفة الشعوب وبالتالي النهوض والمشاركة في بناء الدولة الوطنية دون الاتكاء على الآخر ؛ إذ ليس بالضرورة كل ما يصدّره الغربي يمكن أن يحقق اكتفاء نسبيا للثقافات الأخرى بقدر ما يؤثر في بعض الرؤى الثقافية أو المنظومات الفكرية التي نمت وترعرعت في نطاق المؤسسة الاجتماعية والتي أصبحت اليوم تتعرض في كثير من الأحيان إلى محاولات المسخ والتقويض بحجة العولمة الثقافية. لذلك يأتي مفهوم الأمن الثقافي في كونه المفهوم الأشمل الذي يسهم في ترسيخ مجموعة من آليات النهوض القادرة في مسايرة الركب ومواكبة الحضارة ولا ريب في أن مسألة الأمن الثقافي العربي ذات أثر عظيم في الحد من خطورة العولمة حتى لا تنصهر الثقافات الوطنية وتذوب في العنصر الأقوى لهذه المسألة المعقدة حين تروج اليوم مفاهيم من قبيل العولمة الثقافية التي تسعى في تثمين القيم المحلية وتسليعها ومحاولة إدماجها في الكونية وذلك في حد قولهم للمساهمة في التنمية المستدامة وزيادة مستوى الرفاه المعيشي.
وحتى تتحقق التنمية المستدامة بالمفهوم السليم في الأوطان العربية والعالم الإسلامي هناك الكثير من مقومات التجديد الحضاري وأعنى بذلك الاتكاء على المورد الثقافي الذي يدفعنا اليوم في الإصرار على هذا الملمح المهم والتشديد على مسألة البحث العلمي والابتكار والنتاجات العقلية وتطوير العلوم الإنسانية والتطبيقية وتجديد الخطاب الديني والفكري وحث الحكومات في تمكين الأفراد والجماعات في إطار الدولة الوطنية من وضع خطة وطنية قومية استراتيجية عبر المؤتمرات والندوات الاعتبارية من خلال استقطاب النخب المؤثرة الغيورة على مصلحة الأمة من محاولات الطمس والانسلاخ؛ لاستعادة الشخصية الحضارية للأمة العربية والإسلامية والتفكير جليا في المقومات الحيوية التي تحقق لنا هوية وجودية في أمة قادرة على التفكير والإنتاج وليس للاستهلاك أو نقطة عبور هامشية – كما يرون- وبالتالي تحقيق مكانة عظيمة قائمة على مبدأ المشاركة والتفاعل الكوني في أطر متوازنة. والحقيقة الجوهرية أن مسألة الأمن الثقافي تضمن للشعوب البقاء من خلال الدفاع عن قيمها ومبادئها الأخلاقية بآليات الثقافة التي ستسهم بدورها عبر العولمة نفسها في أن يكون للأمة العربية دورٌ عظيمٌ في إثراء الثورة الكونية والاندماج بعيدا عن محاولات التبديد، وكل ذلك لا يتأتى له الحضور إلا بعد تحقيق الدولة الوطنية لعناصر الاكتفاء الذاتي والداخلي وتكوين الشخصية الاعتبارية للحيلولة من الفردانية المتعولمة بأنظمة السياسة المركزية التي ترى أن مسألة الدولة الوطنية للزوال أو التلاشي.