العمانية- شؤون عمانية
يرى المتتبع لواقع الكاتب والشاعر هاشم الشامسي الأدبي والثقافي، أنه مسكون بذات الأمكنة وحيثياتها، وما يعزز ذلك كتابه السابق ” بيت الجريزة”، بالإضافة إلى كتاب له صدر أخيرًا بعنوان “السيب رباط العلماء والقادة المسلمين”، وعتبات الروح، وصمت القافلة، والعابرون إلى الوهج البعيد، ومغتسلا بسرمد الرحيل.
يقدم الشامسي كتاب “السيب رباط العلماء والقادة المسلمين” وماهيته التاريخية الثقافية فيقول: “كتاب “السيب رباط العلماء والقادة المسلمين” جاء تكملة لما بدأته في كتابي السابق “بيت الجريزة”، السارد لسيرتي الذاتية، تضمن جزء منه حياتي التي عشتها منذ الطفولة في ولاية السيب بمحافظة مسقط التي تعتبر مكونا رئيسًا في ذاكرة طفولتي، إلى جانب مدينة مسقط القديمة.
ولأهمية ولاية السيب والأدوار المهمة التي كانت تقوم بها، وعلى مدى التاريخ العُماني، كانت ولاية السيب إحدى أهم الولايات في سلطنة عُمان من حيث موقعها الجغرافي الذي يعد حلقة الوصل بين ولايات محافظة مسقط وباقي الولايات الأخرى في السلطنة.
وتعتبر ولاية السيب من المدن العريقة بما تميزت به من حضور وإسهام في التاريخ العُماني القديم والحديث، وكمدينة حديثة تستقطب الكثير من أبناء الولايات الأخرى لتميزها بموقعها المهم وتطورها في جميع المجالات العلمية والخدمية وتسمى قديمًا ” دَمَا “، بفتح الدال وتخفيف الميم، كما ضبطها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان.
تضمن الكتاب ثمانية فصول، تناولت “دَمَا ” كرباط للعلماء والقادة المسلمين، وكيف كانت من أسواق العرب المشهورة، وحكت تفاصيل زيارة الزعيم السياسي والأديب الليبي سليمان الباروني لها وتفاصيل اتفاقية السيب، وتحدثت عن معالم السيب القديمة، ومدينة السيب الحديثة وما حظيت به من تحديث وتطوير في جميع مجالاتها العلمية والخدمية في عهد النهضة المباركة والمتجددة وأهم شخصياتها مرورًا بتقديم نبذة عن نادي السيب باعتباره أحد الأندية الرياضية في سلطنة عُمان.
وضمن سياق تجربة الشاعر الشامسي مع الشعر، فقد صدر له أخيرًا “عتبات الروح” عن الجمعية العُمانية للكُتّاب والأدباء ويقول: يأتي هذا الإصدار ضمن محاولاتي وتجاربي المتعددة التنويع في أساليب الكتابة، فهو تجربة جديدة في كتابة النصوص القصيرة جدًا، أو ما يسمى بكتابة الشذرات، وهذا النوع من الفن الأدبي قليل الانتشار بين الكُتاب، سواء على مستوى الكُتاب في سلطنة عُمان أو على مستوى العالم العربي أو حتى على مستوى العالم، رغم أن هذا النوع من الكتابات الشذرية قد ظهر منذ مئات السنين، وظهرت مثل هذه التجارب لدى الشعراء والفلاسفة وكذلك لدى المتصوفين في القرن الرابع الهجري لكن هذا لا ينفي وجود العديد من المحاولات لهذا النوع من الكتابة في سلطنة عمان خاصة عند الكاتب عبدالله حبيب والكاتب سيف الرحبي.
وتضمن كتاب” عتبات الروح ” (٣٠٧) شذرات تنوعت مضامينها في مختلف مواقف الحياة وفي سياقات متعددة من حيث اللغة وتكثيفها وبُعدها الجمالي والرؤيوي، وفي سياق تقسيمات هذه الشذرات التي جاءت في عناوين ومجالات متعددة.
ونص “لماذا أكتب” بإصدار “عتبات الروح”، يشخص حالة الكتابة لدى الشاعر الشامسي قائلا: الصمت يحررنا من الخواء الكوني، أما الكلمة فهي عزاء لنا من هذا الخواء، فالكتابة فعل الكاتب وكل كاتب ما كتب. لذلك الكتابة هي درب الألم، والكاتب مثل بئر الماء يتم استنزافه من قبل القراء.
ويخبرنا الكاتب هاشم الشامسي عن الشعر وأحواله وتجذر حضوره في مسيرته معلقا: الكتابة الشعرية في سلطنة عُمان زاخرة بتنوع أساليبها ابتداءً من قصيدة الوزن والقافية ثم قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة وانتهاء بالقصيدة الشعبية أو النبطية.
ولو أمعنا النظر إلى قصيدة النثر نجد أن كُتاب هذه القصيدة في تزايد وقد أحصيت عددا من الإصدارات في عام ٢٠٢١ وعام ٢٠٢٢م. ولكن الساحة الشعرية تعاني من قلة عدد الكتابات النقدية رغم وجود عدد من النقاد العمانيين، وقد يكون اشتغالهم بأعمالهم الأكاديمية انعكس ذلك سلبا على نشاطهم في الكتابة النقدية وعلى تقييم هذه التجارب الشعرية الحديثة خاصة قصيدة النثر، وربما هذا ينسحب تقريبا على معظم الدول العربية، حيث كثرة عدد الإصدارات مقارنة بعدد الكتابات النقدية التي تؤطر هذه التجارب بالملاحظات والتقويم والمساعدة على تطوير هذه الكتابات.
ويشير إلى أن عدم وجود صالونات أو بيوت تُعنى بقصيدة النثر لتبادل الأفكار وتجديد الرؤى حولها ربما يكون ذلك من أسباب خفوت بريقها إذا ما قارنا ذلك بكتابة الرواية التي تتصدر الزخم الإعلامي، وأرى أن يراجع الشاعر كتاباته السابقة حتى لا يكرر نفسه ويبقى أسيرًا لنفس الثيمات والمفردات والأمكنة والصور الشعرية، وهذا ما لاحظته عند بعض الأصدقاء من كُتّاب قصيدة النثر، وأن مسيرة كتابة قصيدة النثر في عُمان مضى عليها أكثر من أربعين عاما ولم تكن هناك مراجعة من كُتّابها أو بمعنى إصدار بيان حول قصيدة النثر العُمانية ليكون هذا البيان مرجعًا لكُتاب قصيدة النثر في عُمان وللناقد والمتلقي والدارس معا، وهذا مؤشر سلبي ناتج عن ضعف التواصل، وروح تبادل الأفكار بين رواد كتابة قصيدة النثر في عُمان مما انعكس ذلك سلبًا على مسيرة كتابة قصيدة النثر العُمانية.
ذلك ما جعلني أتوقف عن إصدار المزيد من المجموعات الشعرية بعد مجموعاتي الثلاث وهي: “صمت القافلة، والعابرون إلى الوهج البعيد، ومغتسلا بسرمد الرحيل، من أجل المراجعة والتأمل في تطوير هذه التجربة، حتى لا يحدث التكرار في سياق تجربتي الشعرية كما هو حاصل عند بعض كتاب قصيدة النثر.
ويقول الشامسي عن إصداره “مغتسلا بسرمد الرحيل”، الذي تضمن 20 قصيدة تنوعت ماهياتها حيث الوطن والرثاء والوصف والعاطفة: “هذا الإصدار يأتي بعد إصدارين سابقين وهما ” صمت القافلة” و “العابرون إلى الوهج البعيد” معبرًا عن تجربة أكثر نضجًا في مسار كتابتي الشعرية، وتأكيدًا على كتابة قصيدة النثر التي اخترتها لتمثل هذا النوع من الكتابة الشعرية التي أرى فيها القدرة على تقديم الصورة الشعرية بكل تجلياتها الجمالية، وتجسد طبيعتها الكتابية كقصيدة لها كيانها المستقل وروحها الإبداعية المختلفة عن غيرها من أساليب الكتابة الشعرية الأخرى، وتعتمد قصيدة النثر على جماليات بناء الجملة الشعرية التي تقف عند بعدها الفني والجمالي، وبعيدًا عن الاسترسال لغرض معين.
ووضح: “كان فضاء مجموعتي الشعرية ” مغتسلًا بسرمد الرحيل “أكثر رحابة وتنوعًا ومعبّرًا عن سياق الموضوعات والثيمات التي عالجتها قصائد المجموعة، ومعبرًا أيضًا عن الرؤى والأفكار الأكثر قلقًا والقريبة من مشاعري وأحاسيسي”.
وذكر أن هذا الإصدار حفل بتنوع الصور الشعرية التي تعبر عن تنوع الثيمات والمفردات الشعرية وتنوع موضوعاتها ومراميها ومعبرة عن الأبعاد الفكرية والمعرفية التي كانت تختمر في مخيلته، لذلك كانت ثيمة الوطن الأكثر تناولًا في هذه المجموعة في ثلاث قصائد وهي: (وطن، الأم الرؤوم في حُب عُمان، وهبة الفجر في حُب مدينة السيب) حيث جسدت حُب الوطن بكل أبعاده وتجلياته.
وفي العوالم المتداخلة المكونة لواقع الأدب اليوم حيث السرد والشعر، يجيب هاشم الشامسي عن سؤال أيهما أقرب إلى الصمود وأكثر وصولا إلى القارئ: الشعر أم السرد: إن مقولة “الشعر ديوان العرب” ما زالت راسخة ومتجذرة في ذاكرة الإنسان العربي، فالشعر نابض ما قبل الإسلام، وبعد نزول الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على شكل قصص في قوله تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) الآية 3 من سورة يوسف.
وعزز هذا الدور من قيمة السرد، ولعدم وجود أرضية راسخة وقوية للكتابة السردية في تلك الفترة بقيت الكتابة السردية ضعيفة الحضور رغم ظهور العديد منها بعد ذلك، مثل ” كليلة ودمنة” و”ألف ليلة وليلة” وكتابة المقامات وغيرها، لكن الشعر بقي هو الأبرز في الساحة الأدبية.
كما ساعدت النهضة الفكرية والفلسفية في المجتمع الأوروبي على انتشار الكتابة السردية في المجتمعات الغربية منذ القرن التاسع عشر الميلادي، من خلال الكتابات القصصية والروائية، إلا أن المجتمعات العربية لم يصل إليها هذا الانتشار والظهور إلا بعد تطور وسائل الاتصالات مثل الإنترنت وغيرها من وسائل التواصل الحديثة، إضافة إلى تطور المجتمعات العربية بعد استقلالها من وطأة الاستعمار الغربي في أواخر القرن العشرين، ومن هنا بدأت ذائقة المتلقي العربي تتغير تدريجيًّا نحو الكتابات السردية خاصة بعد توظيفها في صناعة الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، وصارت لها جوائزها ومسابقاتها.
وفي الجانب الآخر من الكتابات الشعرية بدأت تظهر الأساليب الجديدة في أواخر الخمسينات وبداية الستينات مثل قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر إلى جانب وجود الكتابة الشعرية التقليدية من الوزن والقافية إضافة إلى القصيدة النبطية أو الشعبية، فهذا التنوع والتجديد في الكتابة الشعرية أوجد نوعًا من الصراع والتنافس بين هذه الكتابات الشعرية، إلى جانب ضعف حضور الكتابات النقدية الشعرية التي لا تصل إلى مستوى زخم الإصدارات الشعرية التي تساعد الشاعر والمتلقي على فهم هذه المتغيرات وتطويرها، وبقي تلقي الشعر نخبويًّا إلى حدٍّ ما، وفي المقابل أخذت الكتابات السردية مثل الرواية تحظى بانتشار أوسع لدى المتلقي، وستستمر حتى تصل إلى مداها الذي يجعلها لا تقدم جديدًا في تنوع وتطوير أساليب كتاباتها ثم يبدأ زخم الكتابة الروائية بالانحسار كما هو حاصل مع الشعر، وقد تبرز أنماط أخرى من الكتابات وفق متغيرات الحياة التي بدورها تؤثر على ذائقة المتلقي.
أما الشعر حتى لو خفت بريقه، لكنه سيبقى صامدًا لقدرة الشعر على تحريك خيال الإنسان، فهو الأكثر جمالًا وبُعدًا في إيجاد الصورة الشعرية والبعد الجمالي المعبر عن الموقف أو المشهد وطرح التساؤل عن ماهية هذا الكون.