اشراف بنت الحمدي الدرعية
الرواية فن أدبي مؤثر يوظف فيه الأديب خياله وخبراته، يركز عدسته باتجاه ما غفل عنه الآخرون، كقضية مجهولي النسب التي يعد من “التابوهات المسكوت عنها” في العالم العربي كافة وفي عمان خاصة، حيث جاءت الكاتبة العمانية شريفة بنت علي التوبية لتزيح الستار وتكشف معاناة مجهولي النسب في مجتمع لا يعترف به، من خلال روايتها “سجين الزرقة”.
الرواية العمانية لم تحظ بالاهتمام الكبير من القراء مقارنة بروايات العالم الأخرى، نقصد بذلك القراء العمانيين الذين ينظرون للأدب العماني على أنه ضعيف المستوى، بسبب نظرة تكونت من سوء الدراما العمانية، لكن نثبت في هذه الرواية، أن الكتّاب العمانيين والرواية العمانية خصوصا تصل للمستوى العالمي، بل وقد تتعداه كما في بعض الروايات العمانية، مثل سيدات القمر لجوخة الحارثي، التي حصدت على جائزة البوكر العالمية في الرواية، ورواية سجين الزرقة هذه تحمل عمقا يجعل القارئ ينبهر بجمال تفاصيلها.
الجدير بالذكر أن شريفة بنت علي بن سعود التوبية خريجة جامعة السلطان قابوس، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، علم الاجتماع، لها عدة مقالات في الصحف والمجلات الثقافية، مثل: جريدة عمان، مجلة العين الساهرة، مجلة المجتمع والقانون، مجلة نزوى الثقافية. كاتبة عمانية، تستلهم في كتاباتها ثقافتها، وتتطرق دائما للمسكوت عنه في القضايا الاجتماعية وقضايا المرأة، حيث تقول في حوار لها مع مجلة سيدتي: “أميل في كتاباتي إلى القضايا الاجتماعية وقضايا المرأة بالذات، أبحث عن أولئك المهمشين المبعدين والذين لا يجيدون التعبير عن أنفسهم ولا تطرح قضاياهم، أبحث في تلك الزوايا المظلمة عن قضية تستحق الطرح حسب اقتناعي بها؛ لأننا بكل أسف نعيش في مجتمعات تعتقد أن الصمت عن الشيء يعني عدم حدوثه أو يلغي وجوده”.
رواية “سجين الزرقة” رواية من الأدب الواقعي والاجتماعي، وتعتبر أول مولود روائي للكاتبة شريفة التوبية وتم نشرها في 2020، وقد حصلت الرواية على جائزة أفضل إصدار في مجال الرواية من جائزة الإبداع الثقافي لعام 2021 التي تشرف عليها الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، تنسج الرواية أحداثها في 345 صفحة، وقد صدرت عن دار النشر: الآن ناشرون وموزعون، من العاصمة الأردنية عمّان، جاء تصميم الغلاف على يد المبدعة العمانية الفنانة التشكيلية بدور الريامي، الذي تظهر فيه صورة امرأة ترتدي ثوب أزرق، تتوارى في الأفق الأبيض الذي تعلوه زرقة السماء، ويد طفل تمسك بطرف لحافها، فالغلاف صوّر أبطال الرواية، الأم التي تختفي، والطفل الذي يظل من بعدها محبوسا في لون لحافها.
تدور أحداث الرواية في حيز زماني ومكاني مرهونان بالطائرة والزمن الذي أخذته رحلة راشد فيها من عمان إلى أميركا، حيث يتناوب صوتا البطلان في السرد، بين راشد المعلق في ذكرياته، المنغلق على نفسه، الذي تظهر معه نبرة المونولوغية داخلية، وشمسة التي تكتب تفاصيل حكايتها في رسائل لابنها، شمسة التي يختفي والدها في البحر إثر عاصفة قوية، لا يعود منه إلا قطع من قاربه، فيصلى عليه صلاة الغائب، تتزوج أمها من بعده، فتبدأ معاناة شمسة، الطفلة ذات السبعة عشر التي تتعرض للاغتصاب من قبل زوج أمها، فتحمل منه وتلد طفلا تسميه راشد، الطفل الذي منحها قوة وصوت تدافع به عن نفسها، لتقف أمام الملأ في المحكمة، مخبرة إياهم أن زوج أمها اغتصبها تحت التهديد بالقتل، ليأتي الحكم عليه بالإعدام، وعلى شمسة السجن عشر سنوات، بسبب صمتها وعدم إخبارها لأحد عما كان يفعله بها، فتعيش شمسة في السجن مع ابنها راشد لمدة خمس سنوات، ثم يفترقان فيصبح راشد مسؤولية الدولة في دار الأيتام، وتضل شمسة تقضي مدة محكوميتها، تتعرف في السجن على سجينات لكل واحدة منهم معاناتها وألمها، يعيش راشد في ضياع وخوف بعد أمه، يظل يبحث عنها دائما، يبحث عن أجوبة لأسئلته، يعاني من ظلم المجتمع، يجد توأم روحه إلا أن حبهما تهزمه إيديولوجيات المجتمع الذي لا يقبل بمن مثل مصير راشد، يستسلم ويقرر الهرب إلى أميركا مع صديقه سالم الذي شاركه مصير اللاعائلة، لكنه يتلقى ظرف رسالة من غريب، يقرأها خلال انطلاق الطائرة من عمان متوجهة إلى أميركا، وهي رسالة من أمه شمسة تحتوي كل الحقيقة التي يبحث عنها، فهي قد كافحت من أجله تعلمت وعملت، حاولت الوصول إليه بعد خروجها من السجن، لكن هنالك أمور أكبر منها حالت بين ذلك، لكنها أخيرا حصلت على زوج -نعمة من الله- وقف معها وتفهمها وسهل لها أمر الوصول لابنها، فيبقى في الأخير قرار راشد الذي وصل إلى أميركا مع حقيقته، وهو مشغول في أن يكمل حياته فيها، أم يعود لأمه التي تنتظره في عمان.
دارت الرواية حول شخصيتين رئيسيتين، هما راشد وأمه شمسة، راشد: بطل الرواية في الثلاثين من عمره، أبيض البشرة، له عينان واسعتان، وأنف حاد، وشفتان صغيرتان، وجه دائري، وشعر أسود ناعم، وشامة صغيرة في الجهة اليمنى من الرقبة، ينشأ في دار الرعاية، متعلق بأمل عودة أمه، تميز بالشخصية الغامضة، اليائسة من الحياة. شمسة: البطلة الثانية للرواية وهي أم البطل، يصفها راشد بأن لها وجه دائري أبيض بملامح جذابة، أنيقة حتى وهي داخل السجن، لها “صوت يشبه بحة الناي”، تغتصب وتحمل سفاحا، ويؤخذ منها ابنها، تميزت بشخصيتها المتفائلة والمشرقة في الرواية. تتعالق بهذه الشخصيات الرئيسية شخوص ثانوية، ترتبط بالأبطال وتثري أحداث الرواية وتزيد من حركتها.
كُتبت الرواية باللغة العربية الفصحى مع تداخلات من اللهجة المحلية، فهي لغة وسطى تقترب من روح العصر، لغة تميزت بالمرونة والبساطة، مكنت هذه اللغة القارئ من المشاهدة الحية للأحداث، وجاء سرد الأحداث ذاتيا يتناوب فيه صوتان (راشد/ شمسة)، بلغة تقريرية سلسة، يتخللها التوصيف الرومانسي أحيانا، غلب عليها الطابع البوليسي، استعملت الكاتبة عدد من الأساليب التي تخفف من ثقل الرواية، مثل: تعدد الأصوات، توظيف اللهجة العمانية المحلية، تضمين الكثير من الأغاني سواء تلك التي اقتبستها من أغاني التراث العماني (12345 هين بيت الفار، هين بيت الفار، هاوه بيت الفار…)، (تاتا حبوه مشى)، وأغاني فيروز (موعود.. بعيونك أنا موعود)، (يا طير يا طاير على أطراف الدني)، أغاني عبادي الجوهر (يا سيدي بدري، وتو الليل ما هوّد…)، قصائد محمود درويش (لماذا تركت الحصان وحيدا)، تلك النصوص التي أفادت في تلوين الرواية.
يرى علماء الاجتماع أن الفرد لابد أن يمتلك هوية اجتماعية ليعترف به الجميع، والهوية الاجتماعية هي الانتساب إلى عائلة أو أصل يرجع إليه الفرد، وهي علامات لوجود الأفراد اجتماعيا، وتظهر مشكلة اجتماعية ما إن يفتقد فرد ما لهذه الهوية، فيتحمل مشكلة لا ذنب له فيها، يدفع ثمن خطأ لم يرتكبه، يحاسبه المجتمع طول حياته بدون أقصى ذنب ارتكبه، فالمجتمعات العربية تنظر لنسبك قبل أن تنظر لشخصك، مجهولي النسب هم من وجدوا بلا أب ولا أم، وحيدين بائسين يعانون من نظرة ماقتة يوجهها المجتمع لهم.
يتضح في الرواية أن الدولة تهتم بفئة مجهولي النسب وأن هناك تقدم في توفير الرعاية لهم، لكن على الرغم من ذلك لا تزال سلطة المجتمع هي الأكثر قوة، فمهما حاولت الدولة أن تجعلهم يعيشون حياة طبيعية إلا أن المجتمع يرفضهم. وفي هذه الرواية تظهر شخصية راشد ومن معه في دار الأيتام، حيث يصور راشد حالة الاستنفار الذي يواجههم به المجتمع، واستبعادهم من المعاملة كأفراد عاديين، ظاهرة معقدة لا يخلو منها أي بلد سواء عمان أو غيرها.
يتحدث راشد عن معاناتهم: “نحن لم نكن سوى غلطة… سارعوا بالتخلص منا كي يكملوا حياتهم وكأن شيئا لم يكن، تاركين لنا مواجهة مصيرنا مع مجتمع بأكمله، ليعاقبنا ويجعلنا ندفع ثمن جريمة لم نرتكبها، فيطلق علينا من الألقاب ما يحط من قيمتنا الإنسانية (غبون، لقطاء، أولاد الزنا، أولاد الحرام، نغول…)، فقط الدولة من خففت من وطأة الاسم علينا عندما سمتنا الأيتام”، “مجتمعي لا يقبل الإنسان إلا بأصله، وحسبه ونسبه”.
رواية في غاية الروعة والجمال، أسلوب قوي ومؤثر، جعلني أتعايش مع الأحداث خطوة بخطوة، فقد عشت غربتهم، وتألمت لمآسي كل فرد في الرواية، عميقة جدا فتحت الستار على أشياء كثيرة كنت أجهلها، أولها عالم السجن الذي ما كنت أظنه بهذا الاتساع.
لكن من خلال قراءتي للرواية وجد بعض المنغصات التي عرقلت من سلاسة الرواية:
أولا: الرواية لم تسلم من فخ التكرار، فقد كنت أقرأ أسطر في فصل ما، ثم أجدها تكرر في فصل آخر، وهذا يشتت القارئ ويجعله في كل مرة يحاول أن يرتب الأحداث من جديد، مثلا: قصة سالم الذي رمي في كرتونه أمام المستشفى، قد ورد ذكرها في الفصل 13، وتردد ذكر القصة في الفصل 21، لكن هذا ليس واضحا كثيرا في الرواية، فبشكل عام حاولت الروائية ضبطها بشكل جيد.
ثانيا: لشمسة أخ شقيق كما ذكرت، لكن لم يكن له أي ظهور البتة، فهذا الأخ كان غائبا تماما، رغم وجوب وجوده في هذا الحدث الجلل مع أخته، خصوصا بعد خروج شمسة من السجن والذي ينبغي أن يكون الأخ قد أصبح كبيرا كما كبرت أختها، لكن الغريب أنه لم يظهر صوته، لا كداعم لأخته، ولا كغاضب، خصوصا في مجتمع الذكر هو من يحكمه.
ثالثا: إخوة شمسة من الأم، الذين لهم علاقة معقدة مع شمسة وراشد، لكن لم يتم الحديث أبدا عن هذه العلاقة، ولا عن وضعهم بعد القضية، فقد قتل أبيهم الذي اعتدى على أختهم، يمكن أن أرجع ذلك إلى صغر سنهم وعدم فهمهم، لكن رغم ذلك لم تأت الرواية بأي حديث يخصهم.
رابعا: التناقض الذي ظهر في قصة سلوى، حيث جاء في الصفحة 49: “سلوى لا تبعث لي شيئا، ولم أعد أعرف عن أخبارها هي الأخرى شيئا، وبعد أن دخلت السجن مرة أخرى عرفت أنها تزوجت وانشغلت بحياتها الجديدة، ولم تستطع الذهاب إلى هناك، أو التواصل معي”، لكنها في الصفحة 242، تقول: “سلوى موجودة عند خروجي من السجن، كما كانت موجودة عند دخولي إليه، فهي خرجت من السجن وعادت إليه أكثر من مرة خلال فترة وجودي”، فهنا نتسأل إن كانت سلوى قد تابت وفتحت صفحة جديدة، بالابتعاد عن السجن وكل ما يربطها به لأنها تزوجت، لكن تأتي بعدها لتقول أنها لم تتوقف عن عادة دخول السجن، حتى بعد خروج شمسة، إذن ما الذي جعلها تقطع صلتها بها في البداية؟.
