سعاد بنت علي العريمية
حادثة الإسراء والمعراج التي نحتفل بها في اليوم “دالسابع والعشرين من رجب في كل عام هجري، هي المعجزة لأنها خارقة للعادة، وهي الرحلة لأنها عبرت به مسافات عظيمة ومن أمكنة إلى أمكنة لم يسبق أن وصل لها، حادثة حدثت بقوة الله لأصدق عباده عبودية له “سيدنا ونبينا محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم “.
وسأحاول في هذه السطور تتبعها في مراحلها الثلاث، ما قبلها وأحداثها وما بعدها.
1-المرحلة الأولى: ما قبلها
وهي الأحداث التي هيأت لهذه الرحلة العجيبة والآيات التي رافقتها، فقد عاش سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أقسى الأحداث في حياته، وتمثلت هذه الأحداث في وفاة زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها، السند الذي كان يحتوي أحزان الرسول صلى الله عليه وسلم وما يواجهه من أذى كفار قريش، ووفاة عمه أبو طالب السد الذي كان يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يتطاول عليه كفار قريش بطوفان عداوتهم له ؛ فأنهار هذا السد بوفاته؛ فتسارع أذى كفار قريش وزعمائهم على رسولنا الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم من حيث قوته وعنفه، فوجد سيدنا محمد نفسه وحيدا أمام هذا العدوان فأراد أن يلتجئ هو ومن تبعه من المسلمين بمكان وأناسا يكونون عوننا لهم في حمل راية هذا الدين، الذي يدعو إلى عبادة الله وحده، فذهب للطائف ولم يجد إلا قسوة تفوق قسوة كفار قريش حيث كان في مجلسهم أرادوا تدبير مكيدة قتله بصخرة كبيرة يلقونها عليه من سقف المجلس أثناء خروجه من باب مجلسهم، لكن كيف يتحقق ذلك والله معه مؤيدا وناصرا؟؟!!
فأوحى الله له بأن يخرج سريعا من مجلسهم، وفعلا خرج قبل أن تتحقق مكيدتهم، ولما وجدوا أنفسهم لم يحققوا ما أرادوا من قتل محمد صلى الله عليه وسلم والقضاء على دعوته، أرسلوا صبيانهم وغلمانهم يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، وفي هذه اللحظات فاض حزن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث وجد نفسه وحيدا ومستضعفا، فلهج بدعائه الذي يفيض إيمانا بالله ورحمته ورجاء نوره ملتجأ بنور الله ورضاه فقد دعاء بهذا الدعاء: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
فسبحان من اعتنى بك يا سيد الخلق ، فكنت إنسانا خالص العبودية لله حتى في أشد الأوقا وأقساها تعظم نفسك وتزداد خضوعا وذلة لرب العزة وهنا تكمن عزة أنفسنا في أن نكون عبادا مخلصين لله وحده في كل لحظات حياتنا . وفي هذه اللحظة التي انتهى فيها سيدنا محمد من دعائه الجميل يتنزل ملك الجبال ويطلب منه أن يأذن له في أن يطبق على أهل الطائف الأخشبين “الجبلين” ، فيرد رسولنا الرؤوف الرحيم ،بالرفض ،ويقول :”لعل الله يخرج من أصلابهم من يحملون راية هذا الدين”.
وبعدها يقيم الليل بالقرآن العظيم ، فيرضيه الله بسعة عطائه ،فيؤمن به الجان في نفس اللحظة ويذهبون داعين لدينه ،بعد استماعهم لكلام الله يتلى على لسان رسوله الكريم محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم.وهذا ما أكدته الآيات الكريمة في سورة الجن. قال تعالى:” قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا (1) يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فََٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدٗا (2) وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةٗ وَلَا وَلَدٗا (3)
ويؤمن به عداس الغلام الذي أتى لسيدنا محمد بعذق عنب في البستان الذي استراح به وهو خارج من الطائف.
وبعد كل هذه المعارك النفسية والجسدية التي خاضها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم من فقد لأحبه ،وتسلط كفار قريش عليه ،وقسوة أهل الطائف ،أرداد الله أن يسري على نبيه الكريم ويخفف عليه ، ويعلمه بأنه سميع بصير بكل هذا الجهاد العظيم ؛ لتبدأ رحلة عظيمة تخترق مسافات كبيرة في الأرض في زمن قياسي ،وسنوات ضوئية عديدة في السماوات.
2-المرحلة الثانية: أحداث حادثة الإسراء والمعراج
وقد اختصرت الآية الأولى من سورة الاسراء حادثة الإسراء حيث قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿١﴾
فسبحان الله الذي تنزه في فعله عن فعل الخلق ،فهو الذي أسرى بعبده الذي وصل إلى أعلى درجات العبودية ؛ فأستحق هذه الرحلة العجيبة ، فقد جاءه جبريل ليلا ؛ ليكون الأمر غيبيا إلى قيام الساعة ، وحمله جبريل على ظهر البراق من بيت أم هانئ الذي كان جزءا من المطاف في البيت الحرام ؛ ليسري به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ؛ ليجد الأنبياء جميعهم بانتظاره ؛ ليؤم بهم ،ثم يعرج إلى السماوات العلا ،وقد شق صدره قبل المعراج ؛ليهيئ جسده لرحلة عظيمة لا يمكن أن تتم بالطريقة التي تعمل بها أجهزة اجسامنا في الأرض ،فتغير بحيث يمكن لجسد سيدنا محمد أن يعرج إلى السماوات بسهولة ،ونحن نرى ذلك أمر طبيعي ،لأننا نرى مع تقدم العلم ووصول الإنسان للفضاء وللقمر لا يتم إلا بتهيئة أجساد رواد الفضاء لأشهر عديدة ،وتصنع لهم بدلات تمكنهم من التأقلم مع تقلبات الأوضاع والأجواء خارج طبقة الغلاف الجوي التي تعيش بها جميع الكائنات.
ويعرج بسيدنا محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم ؛ليمر بالسماوات السبع ، فيرى الأنبياء ،ويرى مشاهد من الجنة والنار إلى أن يصل إلى أعلى درجة والتي أكرمه الله بها دون غيره ؛ فيصل إلى سدرة المنتهى ويصف المشهد وما فيه من آيات كبرى ،وقد ورد ذلك في سورة النجم ،قال تعالى:” { مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى (١٦) مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} [النجم].
ثم يرجع بعد هذه الرحلة العظيمة التي لم ولن يمر بها غيره؛ ليجد فراشه دافئا وكأنه قام من قبل ثواني ، أو دقائق معدودة ؛ ليؤكد بأنه عاش هذه الرحلة بزمان غير زماننا ؛ فهي رحلة تحتاج لسنوات طويلة لا يعلم تقديرها إلا الله فسبحان من بيده القوة والملكوت ، فهو الذي جعل عالمنا يعمل بأسباب وقوانين ثابته ؛ ولكنه هو القادر على خرق هذه الأسباب والقوانين والنواميس.
3-المرحلة الثالثة: ما بعد حادثة الاسراء والمعراج
بعد هذه الرحلة العظيمة التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بتفاصيلها العظيمة أخبر بها من رأى ،فجاءت ردات الفعل متناقضة ومختلفة ، فمنهم من كذب كأبو جهل الي طار فرحا فحسب أنه وجد أمرا يطعن في صدق نبوة سيدنا محمد ،فاتجه للمسجد ،فقال لمن فيه :”أن صاحبكم يزعم أنه أسري به الليلة من مكة إلى بيت المقدس ” ، فمنهم من قلب كفيه متعجبا ، ومنهم من أنكر ،ومنهم من أرتد.
وأتضح موقف أكثر الصحابة والمسلمين وأهل مكة رجاحة في العقل ،موقف أبو بكر الصديق الذي قال :”إن كان قد قال فقد صدق” ،”إنا لنصدقه في أبعد من هذا ،نصدقه في خبر السماء “الوحي” ، فكيف لا نصدقه في هذا؟؟!.
وبذا استحق لقب الصديق الذي لقب به بعد هذه الحادثة .
فأحدث هذا الخبر فتنة في وسط مجتمع مكة ،وكذبوه كفارها وأرادوا أن يثبت لهم محمد صلى الله عليه وسلم صدقه فيما أخبرهم به ، وهم يعلمون تاريخه بأنه لم يرى البيت المقدس قط ،فطلبوا منه أن يصف لهم بيت المقدس ،وكيف له ذلك وقد وصله ليلا حيث يسود الظلام في أغلب أجزاءه ،وقد وصل للجزء الذي أمّ به الانبياء ولم يرى جميع اروقته، وأنطلق بعدها في رحلة المعراج إلى السماوات ، فأيده الله بأن يرى عرض عليه الوحي صورة المسجد الأقصى أمامه وكأنه مقطع فيديو يمر بالمسجد الأقصى بابا بابا وركنا ركنا ،فوصفه بدقة متناهية . ولكن كفار قريش لم يكتفوا بذلك بل طلبوا أدلة أخرى ،فكيف به يقطع كل هذه المسافة بين المكانين في ليلة وهم يقطعونه في شهر على ظهور الأبل ،فذكر لهم تفاصيل ثلاث قوافل في طريقة من الشام إلى مكة ،وقال بأن أقربها سيصل في اليوم الفلاني مع شروق الشمس ،وفعلا انتظروها في ذلك اليوم في نفس المكان الذي حدده سيدنا محمد وخرجت لهم مع شروق الشمس.
فسبحان الذي أكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الرحلة ؛ ليهون عليه ويخفف عليه ؛ وليؤكد له بأنه مؤيد من الله فهو في سعة عطاء الله ،فإن كان أهل الأرض ضيقوا عليه ،احتفى به أهل السماء ..وسبحان الذي جعل البيت المقدس ومن حوله مباركا ؛ وجعله بهذه الحادثة ممتلكا للإسلام ، لذا فواجب الحفاظ عليه من واجبنا جميعا كمسلمين ،وقد قام بهذا الواجب أخواننا المسلمين المرابطين في فلسطين مدافعين بأرواحهم وأموالهم وأهلهم هم فقط فجزاءهم الله عنا خير الجزاء . فاللهم رد البيت المقدس بنصر عظيم للإسلام والمسلمين، فسبحانك القادر على ذلك، ولكن نحتاج أن نصل إلى العبودية الحق التي أرادها الله فالعبودية الحق هي التي تتحقق بها المعجزات حيث تخرق القوانين الكونية نصرة لمن ينصر دين الله.
فاللهم ردا إليك مردا جميلا ، وارزقنا اتباع نبينا محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم حق الاتباع الذي تحب وترضى .آمين