مبارك بن سعود الحرسوسي
التاسع من يناير ٢٠٢٠ وأنا عائد من زيارة عمل من جمهورية سنغافورة إلى أرض الوطن، وكلي شوق وحنين إلى تراب بلد أحببتها وأحببت شعبها، وكانت الأخبار في البلاد والشائعات قد بلغت مبلغا حول صحة قائد البلاد ومؤسس النهضة الحديثة والأب الحنون الراسخ في أذهان العمانيين منذ السبعين.
وفي صباح يوم الجمعة حيث كنت في العاصمة مسقط وكانت الأجواء غير مستقرة والسماء ملبدة بالغيوم تنذر عن ضيف يفرح الجميع، إنه المطر الذي يبهج النفس حيث انهمر المطر بغزارة على البر والبحر، إلا أن الجو العام للبلد وخصوصا ما شاهدته في مسقط لا يعطي أي مؤشر عن أي حدث غريب أو مصيبة قادمة على البلاد، ومع تناقل الناس الاخبار هنا وهناك إلا أن الأمر يسير وفق المعدل الطبيعي للحياة اليومية -حيث لم يكن كذلك في دهاليز عمان- ولم يشعر المواطن بأي حركة غير طبيعية.
وفي وقت متأخر من الليل من مساء الجمعة العاشر من يناير ٢٠٢٠ ومعظم الناس قد أوت إلى النوم بدأت ملامح نهاية قصة تاريخ عظيم، لحقبة زمنية من حقب عمان العظيمة، وقبيل صلاة الفجر جاء الخبر اليقين عبر الشريط الأحمر (السلطان قابوس.. في ذمة الله).
وقفت أتأمل الشاشة ولم أصدق ما شاهدته عيناي رغم إيماني بأن الموت حق، وارتسم في مخيلتي شريط من الذاكرة كيف تكون عمان بدون قابوس؟ فتحت النافذة فإذا بالدموع تتساقط من مقل السماء بين الحين والآخر، متفاعلة مع إعلان ذلك الحدث الجسيم والمصيبة التي حلت بالبلاد والعباد.
حاولت التوجه لجامع السلطان قابوس الأكبر لصلاة الفجر وانتظار صلاة الجنازة خوفا من إغلاق الطرق إلا أنه لم يسمح لي بالمرور في تلك اللحظة وصليت الفجر في مسجد إحدى حارات مسقط، وشاهدت تأثر الناس وبكائهم الشديد، حيث كان كل يواسي الآخر ويعزيه، وبعد ساعة تم السماح لنا بالمرور عبر طريق آخر للوصول إلى الجامع الأكبر، ووصلت قبل َوصول الجثمان بساعتين تقريبا وعايشت تلك المشاهد التاريخية في الجامع حيث امتلأ الجامع عن بكرة أبيه ولا صوت يعلو على صوت النحيب والبكاء من العمانيين والمقيمين، وصوت يخالط البكاء أحيانا يقول رحمك الله ياقابوس بن سعيد.
رأيت محبة الناس لهذا القائد العظيم الذي أسس عمان ورسخ في عقول الكبار والصغار، وحضر للصلاة أفراد الأسرة المالكة الكريمة ومن ضمنهم السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ ولم نكن نعلم ساعتها عن تعيينه سلطانا للبلاد بسبب عدم السماح لنا بأصطحاب هواتفنا داخل الجامع وعايشت المشهد المهيب الآخر أثناء حضور الجنازة، حيث تعالت الصرخات والبكاء، ومحاولة لمس النعش الذي يحمل جثمان السلطان الراحل واستمر الصوت والبكاء لدرجة أننا لم نسمع صوت الإمام والصلاة، وعند إخراج الجنازة قام مجموعة من الناس بالصلاة على الميت لمن لم يصل.
مشاهد عظيمة لم ولن أنساها ما حييت، ومن سمع ليس كمن رأى.
رحل الزعيم الكبير وحزنت الأرض والسماء على الفراق الأليم ووارى الثرى والمطر ينهمر على تلك المقبرة التي ضمت جثمان أعز الرجال وأنقاهم، تلك العبارة التي أطلقها السلطان هيثم بن طارق في أول خطاب له أثناء تنصيبه سلطانا لعمان.
رحل قائد وأتى قائد لاستكمال مسيرة التنمية المتجددة فهو أمل عمان وريحة الغالي، الذي أوصى به خيرا والتف حوله الشعب والتف حول شعبه، كما رأيناه في لقاءاته المختلفة بأبناء الوطن من محافظة إلى أخرى، لحرصه على الاستماع المباشر لهم شخصيا دون حواجز، وطلبه لمشاركتهم الحكومة في خطط التنمية من خلال ولاياتهم ومحافظاتهم، فهنيئا لعمان هذا القائد الحكيم، وأملنا بالله أن يوفقه لما فيه خير وصلاح هذا الوطن الغالي وأن يحفظ عمان وأهلها من كل مكروه.