هارون بن سالم الحسيني
عند مطالعتنا للبيانات الاقتصادية المنشوره في الموقع الإلكتروني للبنك الدولي ندرك يقيناً بأن اقتصاد سلطنة عمان قادر على مواجهة الأزمات والتي كان آخرها تفشي جائحة كورونا والإجراءات الاحترازية التي رافقت الأزمة والتي أثرت على الانشطة الاقتصادية داخل وخارج السلطنة، كما أن تلك البيانات تغرس في نفوسنا الثقة المطلقة بأن المستقبل سيكون أكثر إشراقاً، ولتحقيق ذلك فإن من المهم النظر إلى الواقع الحالي للاقتصاد، والتفكير في مصادر اقتصادية على مستوى الفرد والمجتمع والدولة وأن نعزز من مستوى اقتصادنا بالابتكار والبناء على تجارب الدول الأخرى.
سأقدم لك عزيزي القارئ من مبدئ النظر في الواقع الاقتصادي بعض البيانات بدون الخوض في تفاصيل مالية بل بالوقوف على بعض أهم المؤشرات على سبيل التأكيد، وليست على سبيل التحليل أو التعليق الاقتصادي، وسأقتصر في عرض البيانات على نصيب المواطن العماني من الناتج المحلي الإجمالي ومعدل النمو الاقتصادي وسأتطرق إلى الموضوع الأهم في الساحة الاجتماعية وهو موضوع الباحثين عن عمل.
تشير البيانات لعامي 2019م و2020م أن نصيب المواطن العماني من إجمالي الناتج المحلي (بالأسعار الجارية للدولار الأمريكي) بلغ 12,659.7 وللمقارنة فإن نصيب الفرد في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل يبلغ 4,754.5 بينما يبلغ في البلدان مرتفعة الدخل 43,950.1، وبلغت نسبة نمو إجمالي الناتج المحلي للسلطنة وهي طبعاً نسبة إنخفاض بسبب الأزمة -0.8 بينما بلغت النسبة في البلدان مرتفعة الدخل -4.6 وفي البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل -1.4، وبالرغم من أن اقتصاد السلطنة انخفض بوتيرة أقل مقارنة بأغلب الدول في العالم إلا أن من المتوقع أن يعاود الاقتصاد ارتفاعه في عام 2020 و2021 مع تعافي العالم من أزمة كورونا، تشير كل تلك البيانات إلى أن معدل الانتاج الاقتصادي للسلطنة يتوافق مع عدد سكانها وأن نصيب المواطن العماني من الناتج المحلي كفيل بتوفير الرفاهية المتزنة وأن السلطنة تحقق أداء إقتصادي جيد في ظل الأزمات العالمية مقارنة بالكثير من الدول الأخرى في المنطقة والعالم.
حتى القضايا التي نعتبرها الأكثر تعقيداً وهي قضية الباحثين عن عمل فإن السلطنة في وضع متوازن مقارنة بالدول الأخرى، حيث تشير بيانات البنك الدولي لعام 2019م إلى أن (بطالة الشباب إلى نسبة القوى العاملة لأفراد الشريحة العمرية 15-24 عاماً الذين ليس لديهم عمل ولكنهم متاحين للعمل ويبحثون عن الوظائف) في السلطنة بلغت 11،55 % وهي أقل مقارنة بالاتحاد الأوروبي والتي تبلغ النسبة فيه 16،83 % مع الإشارة إلى أن النسبة المتوسطة بالعالم العربي هي 26.5% ، فمعدلات البطالة في السلطنة بالرغم من ارتفاعها النسبي إلا أنها ضمن المعدلات الطبيعية مقارنة بالبلدان الأخرى في العالم حتى المتقدمة منها.
كل تلك البيانات تدعوا إلى الاعتزاز بما بذلته الحكومة من أجل الوصول بالإقتصاد إلى مرحلة متقدمة من الكفاءة، ولكن إذا ما تعمقنا في قراءة البيانات وركزنا النظر إلى واقعنا، فسنرى فرص إقتصادية سانحة ما نزال مترددين في استغلالها والاستفادة منها، وتتمثل تلك الفرص في الصناعات الابداعية والثقافية والصناعات القائمة على المعرفة والتقنية الحديثة، وهي الصناعات التي تحتاج إلى عقول كبيرة كتلك العقول التي يمتلكها شباب هذا الوطن، أكثر من حاجتها إلى إستثمارات مالية كبيرة، وتحتاج إلى عزيمة وإصرار كما هو عزم وإصرار شباب هذا الوطن، وقبل أن أعرض عليك عزيزي القارئ العوائد التي يمكن لهذه الصناعات أن تضيفها لاقتصاد السلطنة وللشباب العاملين في هذه الصناعات سنعرف ماهية هذه الصناعات وما تشتمل عليه.
الصناعات الإبداعية والثقافية هي الصناعات القائمة على الابداع والابتكار وترتبط بالثقافة ومنها “المسرح والفنون البصرية والسينما والتلفزيون والراديو والموسيقى والنشر وألعاب الكمبيوتر والوسائط الجديدة والهندسة المعمارية والتصميم والأزياء والإعلان وغيرها” وتعد الصناعات الابداعية أحد أهم المحركات الاقتصادية على مستوى العالم، وإذا ما نظرنا إلى تجارب الدول الأخرى بهذا النوع من الصناعات فإننا ندرك تماماً حجم العوائد المتوقعة من هذه الصناعات، بالطرق المباشرة أو من خلال القيمة المضافة.
في للولايات المتحدة الأمريكية مثلت الصناعات الابداعية والثقافية نسبة 4.3 % من الناتج المحلي لعام 2019م وبإجمالي (919.7 مليار دولار) تقريباً وذلك حسب البيانات الحكومية الرسمية، أما في الصين فتعد هذه الصناعات من أهم عناصر تعزيز النمو الاقتصادي للصين، حيث شكلت القيمة المضافة للصناعة الثقافية تقريباً 4.48% من الناتج المحلي الإجمالي الصيني في عام 2018م وذلك وفق بيانات المكتب الوطني الصيني للإحصاء، أما في بريطانيا فق بلغ النمو السنوي في عام 2019م لمساهمة الصناعات الثقافية والإبداعية نسبة 2.7 %، حيث بلغ إجمالي مساهمة هذه الصناعات في الناتج المحلي الإجمالي حوالي 155،1 مليار دولار أمريكي، وهو ما يمثل 5.9 ٪ من اقتصاد المملكة المتحدة، وقد زادت القيمة المضافة لهذه الصناعات بشكل كبير حيث ارتفعت بنسبة 5.6٪ بين عامي 2018م و 2019م، ولا تقتصر الصناعات الإبداعية على المجالات الثقافية والفنون بل أن الصناعات الابداعية قد تشمل أيضاً الصناعات المتعلقة بتقنية المعلومات والاتصالات وغيرها من المجالات التي تعتمد بشكل كبير على المعرفة والابتكار.
من بين الصناعات الابداعية صناعات تقنية المعلومات والاتصالات وهي تشمل الاتصالات السلكية واللاسلكية والصوت والفيديو والحاسب الآلي والتجهيزات المرتبطة به والمكونات الإلكترونية وسلع تقنية المعلومات والاتصالات الأخرى، وقد ارتفعت نسبة صادرات تلك السلع من إجمالي صادرات السلع الأخرى على مستوى العالم بنسب متفاوته بين الدول، حيث بلغت نسبة تلك الصادرات في الولايات المتحدة 8.7 % وذلك في عام 2019م ودول الاتحاد الأوروبي نسبة 5.3 % في نفس العام، وبلغت النسبة في العالم العربي 2.2 % لعام 2018م، أما سلطنة عمان فقد بلغت النسبة 0.4 % وذلك حسب آخر إحصائيات للبنك الدولي عام 2018م.
إذا ما اعتبرنا صناعات التقنية المتقدمة ضمن الصناعات الإبداعية فإن تلك الصناعات أيضاً شهدت نمواً على مستوى العالم، وصناعات التقنية المتقدمة هي الصناعات ذات الكثافة العالية من حيث التطوير والبحوث مثل مجال الفضاء الجوي وأجهزة الحاسوب والمنتجات الصيدلانية والأدوات العلمية والأجهزة الكهربائية، وقد بلغت نسبة تلك الصادرات من صادرات السلع المصنوعة في الولايات المتحدة 19 % وذلك في عام 2020م، أما في الصين فقد بلغت النسبة لنفس العام 31 %، وفي الاتحاد الأوروبي 16 %، وفي العالم العربي 3%، أما في السلطنة فقد بلغت النسبة1% وذلك حسب آخر إحصائيات متوفرة لدى البنك الدولي في عام 2018م.
نتيجة للنمو الهائل في الصناعات التي تطرقنا إليها ومع انطلاق الثورة الصناعية الرابعة فقد شهد العالم كم ضخم من الابتكارات، وذلك ما أحدث ارتفاع كبير في عوائد رسوم حقوق استخدام الملكية الفكرية، حيث بلغت تلك العوائد على مستوى العالم في عام 2020م 387،57 مليار دولار أمريكي، وبعد استعراض العوائد من هذا النوع من الصناعات وادراكنا العميق بأهميتها يتبقى أن نجيب على التساؤل الذي يجب أن يبدر في أذهاننا عن إمكانية قيام صناعات إبداعية في السلطنة بعقول الشباب العماني المبدع وبتعاون من القطاع الخاص والمؤسسات الحكومية.
يمكن للشباب الاستفادة من تلك الصناعات التي توفر حكومة السلطنة كل الامكانيات لإتقانها، كما توفر حكومة السلطنة الدعم الكافي للشباب للتخصص في أي مجال من مجالات تلك الصناعات من خلال مراكز البحث والجامعات ودور المسرح والاوبرا والمبادرات وحاضنات الأعمال والتسهيلات التي تقدمها الحكومة للمشاركة في المسابقات والمحافل والمعرض الدولية والفرص التمويلية وغيرها، ولسلطنة عمان إرث ثقافي يمكن الاستفادة من في اثراء أي تجربة حديثة لإنشاء صناعات ذات علاقة بالثقافة والفنون والأدب، بالإضافة إلى وجود بيئة غنية صاغت أسلوب حياة مميز جدير بإظهاره للعالم، هنا يمكن للشباب العماني الاستفادة من كل تلك المعطيات لابتكار صناعات ابداعية وثقافية بطابع يعكس خصوصيتهم ويبرز هويتهم.
يمكن للشباب العماني الاستفادة من تنوع الصناعات الإبداعية في توفير فرص عمل مجزية مادياً، حيث يتميز قطاع الصناعات الابداعية بقيمته المضافة العالية مقارنة بقطاعات أخرى مثل الصناعات التحويلية والزراعة والتعدين وغيرها من القطاعات، وما يميز هذا النوع من الصناعات سهولة تصديرها عبر العالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي فإنها تساعد في تحقيق فائض تجاري وبالتالي تكون مصدر مهم للناتج المحلي الإجمالي، كما لا تقتصر عوائد الصناعات الابداعية على الجانب المادي فقط بل أنها تمثل قيمة ثقافية واجتماعية وحضاري.
إن ما يمكننا قوله بناءً على تلك المؤشرات والإحصائيات ومع كل ما نراه من بنية أساسية داعمة لإقامة هذه الصناعات في السلطنة أن بإمكان كل فرد الاستفادة مما تتيحه التقنية الحديثة ووسائل التواصل والامكانيات المتوفرة من فرص للمشاركة في انتاج الصناعات الابداعية والثقافية، فهي صناعات ذات عائد مرتفع وتكلفة قليلة لرأس المال، وحتى صناعات تقنية المعلومات والاتصالات وصناعات التقنية المتقدمة فهي صناعات تعتمد بشكل أساسي على العلم والمعرفة وبهما يمكن تأسيس تلك الصناعات، ومع رؤية عمان 2040 يبدوا مستقبل هذا النوع من الصناعات مزدهر كحال بقية القطاعات في السلطنة.
*الصورة من موقع جريدة عمان