بدر بن سالم العبري
كان الأصل يوم الخميس، في التّاسع والعشرين من أغسطس موعد رجوعي إلى عمان، ولمّا علم الأستاذ سعيد السّلماني بوجودي في تكساس ألح في زيارته، والجدول مزدحم ومعدّ مسبقا، فأجلت العودة ليومين آخرين، والأستاذ سعيد أعرفه منذ قرابة خمس عشرة سنة، وعملنا سويّا في الوعظ في وزارة الأوقاف، وجدته رجلا فاضلا متواضعا، وعالما باحثا يتقبل الآخر وإن اختلفوا عنه، وهو في أمريكا مرتبطا بدراسة زوجه، وتعليم أولاده، وهو يواصل دراساته العليا في الجامعة الإسلاميّة في ماليزيا، ويسكن في مدينة لوبوك في تكساس، وتبعد عن دالاس أكثر من ساعتين ونصف، وهي مدينة ريفيّة في الشّكل العام، وهادئة عكس دالاس، ورأيت فيها المزارع والحيوانات الرّيفيّة.
خرجنا بعد الفجر، ووصلنا منزل الأستاذ سعيد قرب التّاسعة والنّصف، ورأيته ينتظرنا، وقد أعدّ لنا الفطور العماني، وأخذنا حديث طويل عن عمان وذكريات الماضي، مع حديث في جوانب فكريّة وفقهيّة مختلفة.
ثمّ شرفنا في منزل الأستاذ سعيد فضيلةُ الشّيخ سامر الطّباع، وهو من مواليد سوريّة، ورحل إلى أمريكا منذ عشرين عاما، وهو الآن إمام مسجد لوبوك، وعضو لجنة الإفتاء في ولاية تكساس وفي أمريكا عموما، فطلبت منه تسجيل حلقة يوتيوبيّة حول الواقع الافتائي في أمريكا، فلم يتردد، فسجلت معه في الحادية عشرة صباحا ضمن برنامج حوارات الحلقة الواحدة والسّتين، وهي آخر حلقة يوتيوبيّة سجلتها في هذه الرّحلة، وبثت يوم الأربعاء في الرّابع من سبتمر على قناة أنس اليوتيوبيّة.
في البداية تحدّث الشّيح الطّباع أنّ موضوع الفتوى في أمريكا من الأمور الشّائكة، ولهذا أسّست مؤسّسة خاصّة للفتوى في أمريكا سمّيت بفقهاء الشّريعة في شمال أمريكا، ولها موقع خاص على شبكة الأنترنت، مع هاتف خاص للمستفتين، ولاختلاف مذاهب المسلمين في أمريكا ليس الجميع يستقي الفتوى من هذه المؤسّسة، لهذا توجد مؤسّسات أخرى أيضا تابعة لجمعيّات ومنظمات مختلفة، وهناك من المسلمين أيضا من يطمئن لعلماء المسلمين في المشرق، أو في بلده حسب مذهبه، وهناك من يفتي الإمام في مسجده، أو أقرب مسجد له، ولهذا يوجد تنوع كبير في الافتاء وما ينتج عنه من تنوع في الفتاوى حتّى في المسألة الواحدة، وتنوع الفتاوى رحمة للأمّة، وفيه ثراء وتوسعة على النّاس، ورفع للمشقة، فالفتوى الواحدة تحدث بها مشقة على النّاس، ويعطي للنّاس مساحة من النّظر والاطمئنانة الفرديّة.
وللأسف حتّى على مستوى المؤسّسات الإفتائيّة في أمريكا لا يوجد اتّحاد أو حتّى تواصل كبير، أغلبها فقط تواصل على شكل علاقات طبيعيّة لا أكثر، لا علاقات تعامل وعمل منظم.
وعموما مؤسّسة الافتاء لا تقتصر عند مذهب واحد، وتتكون من لجنة من أربعة إلى خمسة فقهاء، [لهم مكنتهم في الشّريعة]، والرّموز الافتائيّة في الجملة في أمريكا ليس شخوصا وإنّما مؤسّسات له رمزيتها، مع وجود أشخاص لهم رمزيتهم الافتائيّة والدّعويّة، وقبل الافتاء يتدارسون الفتوى، ثمّ يخرجون بفتوى مناسبة للسّائل، وإذا كانت الفتوى تحتاج إلى آراء وبحث أكبر؛ تؤجل إلى اجتماع سنوي، ويحضرها حوالي ثلاثمائة إمام وفقيه، يناقشون هذه الفتاوى المؤجلة، ويخرجون بفتوى متفق عليها، وليس بالشّريطة أن يتوافق عليها الجميع؛ وإنّما حسب رأي الأغلبيّة.
وبالنّسبة لاستيراد الفتوى من الشّرق فأنا أرى أنّ لكل فتوى حكم يختلف عن الفتوى الأخرى، فبعض الفتاوى لا يمكن استيرادها؛ لأننا نعيش في مجتمع يختلف عن الشّرق، وله طبيعته الخاصّة، له نظمه وعاداته الخاصّة به، فيحتاج إلى أخذ رأي ممّن عاش في هذا البلد، ويعرف طبيعته، ولكن لا يعني هذا الانغلاق عن المشرق، فالمشرق له علماؤه ورموزه الكبيرة، وهو أصل الشّريعة والفقه.
قلتُ: [شاع في فقه الأقليات أو فقه المغتربين عند آخرين تقديم المقاصد والمصالح في الغرب على ظاهر النّصوص، بحكم اختلاف طبيعة المكان، وكثر الاستدلال بقاعدة: المشقة تجلب التّيسير، والأمر إذا ضاق اتّسع، وإذا اتّسع ضاق، مثلا قضيّة الأطعمة، والأحكام المالية]، فعقّب الطّباع: أوافقك الرّأي، فهناك أحكام لو كانت في الشّرق الإسلامي لكانت أسهل في الحكم، بينما هنا يحدث مشقة على المسلمين، مثلا في التّعاملات المالية يوجد اتّجاه لا يؤيده كثير من الفقهاء، بينما أيده آخرون، كشراء المنازل على أقساط، فهنا من الصّعب شراء المنزل دفعة واحدة، ولابدّ أن تدخل في القرض الّذي يجر منفعة، فأجيز هنا من باب الضّرورة ورفع المشقة عن النّاس.
وبالنّسبة للأطعمة نحن نعيش في مجتمع كتابي، فإذا سألت أيّ إنسان أمريكي عن إيمانه، سيقول لك: أنا أومن بالله والمسيح والإنجيل والجنّة والنّار، ولكن العديد منهم لا يمارس تعاليم دينه، ولكن الممارسة شيء، والاعتقاد شيء آخر، فهذا لا يخرجهم عن مسيحيتهم، فالنّاس هنا مسيحيون متعصّبون لها، فلا تمشي في شارع إلا وتجد فيه أكثر من كنيسة، وترى آثار ذلك في المدارس وأماكن العمل أيضا، ولكن قضيّة الإطعمة هنا ليس لكونهم من أهل الكتاب أم لا، وإنّما الخلاف في التّسمية، فهل لحليّة الذّبح لابدّ من التّسمية قبله، وكذلك هل يذبحونه ذبحا أم عن طريق الصّعق الكهربائي، وأنا مع عموم قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 5]، دون البحث والتّشدد في الجوانب الأخرى، ونحن زرنا المسالخ وأماكن الذّبح فوجدناهم يذبحون، والقانون هنا يمنع بيع الحيوان الميت وأكل لحمه؛ لفساد دمه.
وأمّا قضيّة رؤية الهلال القمري؛ المتعارف عليه في الشّرق الإسلامي؛ فهو يرجع إلى الدّولة، وهي الّتي تقرر ثبوته من عدمه، أمّا في أمريكا فتوجد مؤسّسات لها رؤيتها المختلفة، وأشهرها في أمريكا أربعة آراء، فعندنا مؤسّسات تعتمد على الحساب الفلكي فقط، ومؤسّسات ترى بوحدة المطالع إذا رؤي في بلد إسلامي يأخذون به ، ومؤسّسات ترى اختلاف المطالع، فكل بلد ورؤيته، ومؤسسات تتبع أم القرى أي السّعوديّة، وهذا رأي ضعيف جدّا في أمريكا، هذا على مستوى المؤسّسات، كما يوجد على مستوى الأفراد من يتّبع بلده [أو مرجعيّته الدّينيّة كما عند الشّيعة الإماميّة]، وأمّا مؤسّستنا الفقهيّة فيرون وحدة المطالع، فإذا ثبت في أيّ بلد إسلامي يعتمدون عليه، وشرطه أن يكون سابقا لأمريكا، وأن لا يتعارض مع الحساب الفلكي إذا أثبت استحالة الرّؤية في هذا البلد، أمّا في مسجد في لوبوك، والعديد من المساجد يأخذون بالحساب الفلكي، لكونه أسهل على النّاس، خصوصا الموظف في أمريكا لابدّ من تحديد يوم إجازته، فلا يمكن أن تخيّر صاحب العمل بأنّك تريد الإجازة يوم كذا أو يوم كذا.
وأمّا ساعات الصّيام في أمريكا متوسطة إلى العالية قليلا، فنصوم تقريبا سبع عشرة ساعة، لهذا لا يسبب الصّوم حرجا على النّاس، بيد أنّه إذا توجد مشقة في العمل بسبب الصّيام، فعندما يكون رمضان في الصّيف، فبعض العمال يعمل في البناء في الخارج، أو يعمل في حقول نفطيّة، فله حرية الإفطار ابتداء، ويقضي في الشّتاء .
وأمّا الزّواج من غير الكتابيات كهندوسيّة أو بوذيّة أو ملحدة لا نتعرض له هنا؛ لأنّ غالب الزّواج من أهل الكتاب بحكم المكان، ولا أذكر تعرضنا لمثل هذه الحالات، وأمّا فقه الأسرة فتوجد قوانين في أمريكا تلزم الجميع، مثلا القانون الأمريكي يمنع تعدد الزّوجات.
وأمّا العمل في محلات فيها بيع للخمور، هناك من المؤسّسات الإفتائيّة عندنا من أجازها، وهناك من منعها، وهناك من أجازها لشرط الضّرورة مثلا، وعندنا أجيزت للضّرورة، فإذا لم يجد مكانا آخر يعمل فيه، وهو مضظر لذلك، فلا حرج عليه.
وكما أسلفنا للمسجد دور إفتائي، فالعديد من النّاس يستفتي إمام المسجد، وتختلف نوعيّة الفتوى حسب الإمام، أو مذهب المسجد، أو المؤسسة الإفتائيّة الّتي يرجع إليها المسجد.
والمساجد في أمريكا عموما ليست أماكن للصّلاة فحسب، فهي أيضا مراكز تحوي أنشطة للعائلة والمجتمع، وأنشطة للأطفال والنّاشئين والشّباب، كما تشمل أنشطة تعليميّة وترفيهيّة ورياضيّة ودعويّة.
والمساجد هنا لها دور كبير في تحقيق التّعايش مع غير المسلمين، فهناك اجتماعات مع اليهود والنّصارى، ونتناقش في مواضيع عامّة تخدم الأديان والمجتمع، ونتعاون جميعا في ذلك، وإذا حدث ضرر للمسلمين تجد الدّعم من غير المسلمين، وكذلك العكس إذا حدث ضرر لليهود والنّصارى أو غيرهم من الأديان، نقوم جميعا بدعمهم، مثلا حدث قبل سنوات تفجير في كنيس يهودي في ولاية بنسيلفانيا، وقتل بعض اليهود، وذهب مجموعة من مسجدنا إلى كنس لوبوك، مبيننين لهم تضامننا معهم، وإنكارنا لمثل هذه الجرائم، ودعمنا لهم، وكذلك لمّا حدث تفجير المسجد في فنزويلا ضدّ المسلمين؛ أتى العديد متضامنا معنا من اليهود وغيرهم.
وكذلك كما يوجد هنا تعايش مع غير المسلمين؛ أيضا يوجد تعايش بين المسلمين أنفسهم، فلا ننظر إلى الحواجز المذهبيّة، كانت عقديّة أو فقهيّة، ففي مسجدنا سنّة وشيعة، وأنا شخصيّا غدا مسافر، وغدا الجمعة، وسيخطب نيابة عنّي صديقي الشّيعيّ، ومسجدنا تابع لأهل السّنة، ومع هذا التّعايش بين المسلمين؛ لكن للأسف سببه الحريّات في أمريكا، وإن كنت أرجو أن ينبع من داخل المجتمع المسلم، ولكن ليس على العموم، فهناك من يتقبل لأنّ دينه يأمره بذلك.
وفي الختام قال أنا سعيد أن أجد مسلما، يقطع هذه الطّرق، ويجلس مع الآخر، ويستمع له، ولا يتعصّب لذاته ودينه ومذهبه، فوقت التّعصب تجاوزه الزّمن.
وبعد تسجيل الحلقة كان موعد الصّلاة فالغداء، وكما فطرنا الفطور العماني؛ كان الغداء كذلك، ثمّ أطلنا الحديث والحوار، وبعد الظّهر رجعنا إلى دالاس، وكانت لدي ملابس أخذتها إلى محل غسيل الملابس، وهذه أول مرة أحملها، فهناك بذاتك تقوم بغسلها وكيّها، ولكن أصيبت آلة الغسيل بخلل، ولأنّي أحتاج الملابس للرّجوع، وخشيت أن أتأخر عن المحل، إذ يغلق السّادسة مساء، والسّيارة أصيبت بخلل، وهؤلاء لا يتقدّمون دقيقة في عملهم ولا يتأخرون دقيقة، والحمد لله وصلنا قبل الغلق بأقل من خمس دقائق، لنعود إلى النّزل بعد جهد كبير، ونستعد ليوم آخر مع لقاء مع شهود يهوة، ثمّ الرّجوع إلى أرض الوطن، كما سنرى في الحلقة القادمة.