العمانية – شؤون عمانية
العمانية – شؤون عمانية
الراصد لخصائص الثقافة العمانية ومنذ أمد بعيد، يلحظ ذلك التجذر الممتد لآلاف السنين الذي يعكس مدى واقعية الامتداد التاريخي لسلطنة عُمان عبر العصور، وهذا بلا شك ما تبرزه حقيقة النقوش والكتابات الصخرية التي تنبئ عن علاقة وطيدة بين الإنسان والمكان، وشكّل تاريخًا ملهما ومحفزا للعديد من المهتمين والباحثين، ولكن السؤال الذي يقدم ذاته في هذا السياق، كيف قدمت هذه النقوش والكتابات طبيعة العُماني على مرّ العصور؟ وماذا عن خصائصها؟ وما هي الأمكنة التي لطالما كانت الحاضن الرئيس لها؟
في السياق ذاته يتحدث الباحث حارث بن سيف الخروصي عن الكيفية التي قدمت هذه النقوش والكتابات طبيعة العُماني على مر العصور وهنا يشير إلى أن أعظم ما خلفه الإنسان هو إنتاجه الفكري والأدبي الذي حفظه في طروس من ورق أو نقوش على حجر ومعدن وربما رقم من طين، وسلطنة عُمان الواقعة في قلب العالم تتقاطع فيها الطرق الحضارية فاتحة أذرعها إلى المحيط الشاسع بأممه وأفكاره وإلى الجزيرة العربية بتاريخها الضارب في القدم متفاعلة مع محيطها ومسهِمة في العالم القديم وعالم اليوم، فقد تنوعت طرق تخليد الإنسان فيها لحياته وما واجهه من أحداث أو ما ابتكره من أساليب ومعتقدات وآداب عبر الزمن متفاعلا مع بيئته ومع أخيه الإنسان، ولا تزال على صفحات الصخور تدوينات نقشت منذ الأزل لم يفكّ طلاسمها ولكن تبقى رسالة أبدية من الإنسان الماضي إلى الإنسان اليوم وربما في المستقبل.
وعن خصائصها يقول الخروصي: رسم العُماني القديم كثيرًا من الأشياء على الصخور في فجر التاريخ وبزوغ الحضارات فرسم نفسه والكائنات الأخرى التي اعتقد أن لها صلة بالماورائيات فنقش صورة الوعل والثور المقدس والأفعى والشمس والقمر وحتى بني البشر. وتجاوز المعتقد القديم ليرسم أحداثا عاصرها من معارك وحروب أراد أن يخلد عظمتها على الصخر لتبقى مدى الأبد وإن فني ناقشها.
ومع تعاقب الزمن حدث اكتشاف عظيم غيّر مسار البشرية إلى اليوم وهو ابتكار الحرف وهو رسمٌ يوازي صوتا معيّنا، فاستطاع الإنسان أن ينشر معارفه ومعتقداته إلى عوالم أخرى وعبر الزمن، فابتكرت الأبجديات بمختلف أنوعها.
وفي سلطنة عُمان ظهرت أبجدية عربية محلية كانت حروفها 32 حرفا ولا تزال الاكتشافات مستمرة حولها. ومع إسلام أهل عُمان تغير الحرف القديم إلى الأحرف العربية التي كتب بها القرآن الكريم فانتشرت مرة أخرى الجمل بالأحرف العربية وتعدّدت التدوينات الصخرية بين الأدب والتوثيق والأحداث السياسية والعسكرية وأحداث المناخ والأحداث الاجتماعية المختلفة تشبه ما نشاهده اليوم في عصر وسائل التواصل الاجتماعي كفكرة وإن كان النقش على الصخور يحتاج إلى مهارات فردية عالية بالإضافة إلى سعة في المعرفة.
وعن الأمكنة التي لطالما كانت الحاضن الرئيس لهذه النقوش يوضح الخروصي أن المناطق الجبلية على اختلافها هي مكامن لذلك الكنز الثقافي المعروف بالفن الصخري وقد يشاهد الإنسان موقعا واحدا يحوي طبقات كثيرة عبر العصور من الفنون الصخرية.
وفي شأن كيفية تقديم هذه النقوش والكتابات لطبيعة العُماني على مرّ العصور يقول الباحث في التاريخ والنقوش الصخرية علي بن أحمد محاش الشحري: في موروثاتنا القديمة في جنوب عُمان، وهي بلاد الشحر والتي كانت تشكل ثلاثة أرباع أرض الأحقاف أي أرض قوم عاد، نرى ومن خلال دراساتنا أن أرض الأحقاف هي من غرب حضرموت إلى رأس الحد إلى الخليج العربي، حيث قوم عاد وإن العرب هم من قوم عاد وإن الساميين الأصليين كما تذكر ذلك التقارير الغربية، هم في هذه الأرض.
كما أشارت كتب التوراة والإنجيل من خلال المسميات المذكورة فيها إلى أسماء أقوام وأماكن وهي تتطابق تمامًا مع مسمياتنا في هذه المنطقة أي في جنوب سلطنة عُمان وباللغة الشحرية، قوم عاد، /العرب/ شكلوا أعظم حضارة في التاريخ وهم أول من اخترع الأبجدية والحضارات العربية كافة حيث العرب اليوم هي حضارات عربية عادية ويسميها الغربيون الحضارات (السامية) وأصلها من أرض الأحقاف.
ويضيف الشحري: للعرب /14/ أبجدية في الأرض العربية وكلها مفكوكة وأقدم أبجدية باعتراف علماء الغرب هي الأبجدية السومارية وعمرها (5600 سنة) من الآن وظهرت في جنوب عُمان أبجدية جديدة لم تُفك رموزها حتى الآن وعمرها / 6021 / سنة، من الآن وبهذا تكون أقدم من أي أبجدية في العالم بـ /421/ سنة وقد أهديت متحف اللبان بصلالة حجارة بها كتابات كنتُ قد نشرتها في كتابي /ظفار كتاباتها ونقوشها القديمة/ الصادر سنة 1994. ومن ثم تم تأريخ هذه الكتابات ضمن موسوعة علمية عمانية عام 2007، وقد أرّخت الموسوعة الكتابة التي على الحجارة بـ/6021 سنة/ من الآن وبهذا تكون أقدم أبجدية في التاريخ هي من جنوب عُمان.
وعن خصائص تلك الكتابات والأمكنة التي لطالما كانت الحاضن الرئيس لبعضها يوضح الشحري قوله: هناك كتب أمريكية أكدت على أن العُمانيين ومن جنوب عُمان خصوصا قد وصلوا إلى بيرو قبل /4500 سنة/ من الآن في ثماني سفن، وأسماء أهل بيرو القدماء تتطابق مع أسماء قبائل الشحرة في ظفار حتى اليوم، كل هذا يدل على أن العُمانيين كانت لهم حضارة وقوة وثقافة مكتوبة وسفن عابرة المحيطات ودولة قوية وكانوا يصنعون السفن عابرة المحيطات منذ /7000 سنة/ في خور روري.
الدكتورة اسمهان سعيد الجرو، أخصائية دراسات تاريخية، بمتحف عُمان عبر الزمان تشير إلى كيفية تقديم هذه النقوش والكتابات طبيعة العُماني على مر العصور، وتقول إن الكتابة العُمانيّة القديمة تُشكّل إرثا حضاريًّا ومصدرًا أساسيًّا من مصادر التّاريخ العُمانيّ، وخلال تاريخها القديم كانت سلطنة عُمان جزءًا لا يتجزّأ من شبه الجزيرة العربية، وتدلّ السّمات والخصائص المشتركة بين الكتابة العُمانيّة والكتابة العربيّة القديمة على الوحدة المتجذّرة بين السكان فالجميع ينتمي إلى أصل واحد.
وعن خصائص النقوش العُمانية تؤكد الجرو أن الكتابات النّقشية نحِتت على جبال وكهوف سلطنة عُمان بواسطة النّقر، كما كُتِبت بالألوان باستخدام (راتينج) الأشجار، كما أنها تشترك في خصائصها المظهرية مع جميع خطوط الجزيرة العربية، وتنوعت أساليب الكتابة في النقوش العُمانية منها، الأفقي، وتقرأ من اليمين إلى اليسار أو بالعكس، ومنها العمودي، وتقرأ من الشمال إلى الجنوب، وقد تكون منحنية أو (مائلة) تقرأ حسب اتجاه الكتابة، وأحيانا تكون الكتابة متعرجة (حلزونية)، وقد امتازت النّقوش العمانيّة بظاهرة القلب المكانيّ للكلمة، أي التصرّف في الجذر الثّلاثيّ من الكلمة بالتّقديم أو التّأخير، وقد ظلّت هذه الظاهرة معروفة في اللّغة العربيّة وفي اللهجات القديمة الحية حتّى يومنا هذا.
وعن تاريخ تلك النقوش وما هي الأمكنة الرئيسة الحاضنة لبعضها، تقول الجرو: هناك اتّفاق بين اللّغويّين السّاميّين على أنّ أقدم كتابة ألفبائيّة تنتمي إلى اللّغة السّامية وُجِدت في مدينة أوغاريت في سوريا، وترجع نصوصها إلى القرن 14 ق.م، دُوّنت برموز مسماريّة. وفي عام 1992م، عثرت البعثة الفرنسيّة – الإيطاليّة في موقع رأس الجنز بمحافظة الشرقية في سلطنة عُمان على ختمين صغيرين من الحجر الصّابوني المحلّي نحتت عليهما حروف تنتمي إلى الأبجديّة السّامية السّاكنة، كُتبت عليهما سبعة أحرف قريبة الشبه من المسند اليمني والخط الثمودي، وفي ضوء تحليل الكربون 14، أشارت البعثة إلى أنّ تاريخهما يعود إلى نهاية الألفيّة الثّالثة قبل الميلاد، أي أن عمرهما 4200 عام. وأضافت البعثة في تقريرها إننا هنا نشهد ميلاد الكتابة العربية. ولقد تمّ الكشف حتى الآن عن آلاف الكتابات النقشيّة في محافظة ظُفار، وتوالت الاكتشافات بجهود شخصيّة ورسميّة في أنحاء متفرّقة من سلطنة عُمان، من ظفار جنوبا وحتّى مسندم شمالا.
أما الباحث محمد بن راشد الرزيقي، وهو مهتم بالشؤون التاريخية والنقوش الصخرية فيضيف في هذا السياق حول الكيفية التي قدمت بها هذه النقوش والكتابات طبيعة العُماني على مر العصور أن علاقة العُماني بالنقوش الصخرية هي عبارة عن تلك العلاقة التي وجدت بينه وبين بيئته الطبيعية التي عاش وأثر وتأثر بها على أصعدة متعددة، فالمتتبع للأمر يجد صوره على الصخور في الأودية وفي قمم الجبال وفي السهول وفي بطون المغارات لينقل لنا حياته بكل تفاصيلها، فرسم بني جنسه وهو يقف متقلدا عصاه ويحمل سلاحه، ثم ليأتي بعدها ليرسم الحيوانات كالظباء وبقر الوحش، وغيرها من الحيوانات، كما رسم نقوشا تعبر عن تطور حرفة صيد الحيوان، ثم الانتقال إلى حياة الاستقرار ومعرفة الزراعة.
وعن خصائص تلك النقوش يشير الرزيقي إلى براعة العُماني القديم في استخلاص واختيار الصبغة التي يريد التوثيق بها، وقد مزج فيها مادة الصخر الحمراء بشحم الحيوان لينتج مادة سهلة الاستخدام والصبغ وتبقى مادة قوية تظل عبر العصور رغم صعوبة الظروف الطبيعية والمناخ، وهذا ما أكد وجوده في وادي /حلق الطير/ الهابط لوادي الطائيين، بالإضافة إلى ما أوجده سكان مستوطنات النحاس وهم ينقلون خام النحاس إلى المواقد والأفران، مرورا بالصراعات البشرية ومن بينها صراعات نقلها صخر /سلوت النبأ/ في محافظة شمال الشرقية وهو خير دليل على ذلك إذ يمثل صراعًا بين طرفين، حيث تظهر التروس والسيوف والرماح، كما يظهر الرجال وهم يمتطون جيادهم أثناء المعركة.
ويختتم الرزيقي حديثه حيث الأمكنة التي طالما كانت الحاضن الرئيس لبعض هذه النقوش: هناك الكثير من الأمكنة ولكن أود أن أخصص الحديث عن /محافظة شمال الشرقية/، وأشير هنا إلى حصن سلوت الحجري بالنبأ، بالإضافة إلى ظهور المستوطنات في سواحل عُمان، كمستوطنة رأس الحمراء ومستوطنة رأس الحد /محافظة جنوب الشرقية/ وتظهر النقوش والرسومات تلك السفن الخشبية البسيطة وبها فرسان البحر وهم يمسكون بأيديهم الحبال التي صنعت من رشا النخل وكذا شباك الصيد وهذا مُشاهَد في قرن الجاح ببلدة إسماعيه من وادي الطائيين، كما نُشاهد النقوش الصخرية التي تعود إلى الألف الأولى في موقع شنه الأثري وتمثل حيوان الوعل العربي الذي انتشر في جنوب شبه الجزيرة العربية، كما ينقلنا العُماني في العصور اللاحقة إلى تطوير تلك الرسومات وإلى خط المسند الذي ظهر في جنوب عُمان وأيضا بالشرقية وظهور الخط العربي في عصر ٥٠٠ ق.م أو أبعد بقليل لنشاهد خط المسند في أودية سلطنة عُمان كوادي بني خروص.
ويشير الرزيقي إلى أن العُماني منذ بزوغ شمس التاريخ عاش وأثر وتأثر ببيئته المحيطة وسجل ورصد تاريخا مشرقا لحضارته التي أنتجت رجلا متميزا بفكره وطبيعة حياته مما أوجد استقلالية لهذا القطر فكان له تميزٌ ومكانة فريدة منذ القدم، وهذا ما سجلته ألواح السومريين ببلاد الرافدين وكذا الأشوريين وحضارة أكاد الذين جلبوا منها معدن النحاس والفضة وصنعت منه الحلي والأسلحة وأدوات الزراعة والحراثة وفي بلاد مصر الفرعونية أظهرت في معابدها السفن وهي تحمل البضائع التي جُلبت من عُمان وفيها أجود أنواع اللبان.