د. أحلام بنت حمود الجهورية
باحثة وكاتبة في التاريخ
بدأ اهتمامي بموضوع الكتابة عن المرأة في مرحلة الدكتوراه حينما كنت في مرحلة جمع المادة العلمية لموضوعي البحثي، حينها كنت أعيش في صفحات أجزاء بيان الشرع، وهو موسوعة فقهية تتكون من ثلاثة وسبعين جزءًا. وكان اختيار موسوعة فقهية تحدياً كبيراً لأنني أردت خياراً غير تقليدي للبحث عن مادة تاريخية في ظل شح المصادر التاريخية في الموضوع البحثي الذي اخترته.
وبالفعل خضت تجربة لا مثيل لها على مستويات عدة علمية وإنسانية، وأود هنا أن أتوقف قليلاً عند الجانب الإنساني لأني رأيت مجتمعي العُماني في القرون الأولى يتحدث بلسان الفتاوى، رأيت المرأة حاضرةً جسداً وروحاً وعقلاً، تتنقل بين الحارات والبساتين، تُسائِلُ العلماء، تشتكي للقضاة، تنتظر زوجاً طال سفره إما قتالاً في معركة، أو خروجاً في تجارة. رأيتها منعمة مكرمة توقف مالاً، وتوصي بحلي، وتشترط مهراً وتحدد مكاناً للسكنى.
لا أنكر حينها كم أحسست بالخجل الشديد من جهلي، وأنا أقرأ حقوقاً عظيمة منحها الإسلام للمرأة وأكرمها بمكانة أيما إكرام. وبعد انتهاء مرحلة استقصاء المادة العلمية من الفتاوى، كانت المحصلة ثرية بأن تضمنت الأطروحة جوانب مختلفة من حضور المرأة في مجتمعها خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين/ العاشر والحادي عشر الميلاديين. ولن أخفي ذلك الشعور بالقوة الذي أمدتني به الفتاوى، وشعور الزهو الذي اعتراني وأنا أعيش واقعاً متخيلاً عن مجتمع عاشت فيه المرأة مكرمة شرعاً وعرفاً. كما جعلتني أقف عند الجهود الكبيرة التي قامت بها المرأة في ظل ظروف وتحديات لم تكن تخل من المنغصات بين حروب أهلية وغزوات خارجية تحملت خلالها عبئاً نفسياً وجسدياً ليس بالهين.
تواصل ذلك الاهتمام بالمرأة كموضوع وقضية، على شكل مقالات متنوعة فكتبت عن سيدات الفتح المبين، والعُمانية الحاكمة نور بنت معروف، وحفيدة الإمام وسيدة السويق جوخة بنت محمد البوسعيدية، وثلاث سيدات في تقرير القنصل الإنجليزي بمسقط، وسيدتان في حياة السلطان قابوس طيَّب الله ثراه: الجليلة ميزون والسيدة أميمة، والسيدة معتوقة بنت حمود البوسعيدية وستة سلاطين. كما كان لي بعض المشاركات المتنوعة حول المرأة موضوعاً وهاجساً بحثياً، فشاركت في ندوة الحركة العلمية للمرأة العُمانية ودورها الحضاري، وقدمت بعض المحاضرات والمعلومات في منابر متنوعة.
كل ذلك، جعلني قريبة من نساء استثنائيات بفعلهن وقولهن من الماضي البعيد والحاضر القريب، وكانت النتيجة حقيقة وصلت إليها مفادها أن حضور المرأة العُمانية عبر التاريخ ما هو إلا حضور الإنسان العُماني على هذه الأرض، وأثر الحضارة العُمانية في مختلف تجلياتها.
إن ذلك النبش في المصادر والمراجع المتعلقة بالمرأة أدى إلى تزاحم المقولات في ذاكرتي، والتي جسَّدت بعضاً من أثر وتأثير نساء عُمان الماجدات في مراحل تاريخية مختلفة. فمع حديث الشعثاء بنت جابر بن زيد الأزدية (ق: ١هـ/ ٧م) لوالدها مستعطفة: “إن رأسي شعث (أي اغْبَرَّ وتلبَّد) من قلة الحل. فقال لها: عليك بالماء البارد، فما تأخذينه أنت يكفي مسألة نؤلفها فينتفع بها المسلمون”. إلى حكمة وحنكة هند بنت المهلب بن أبي صفرة الأزدية (ق: ١-٢هـ/ ٧-٨م): “إذا رأيتم النعم مستدبرة فبادروها بالشكر قبل حلول الزوال”، “ما تحلين النساء بحلية أحسن عليهن من لُب طاهر تحته أدب كامل”.
ثم صرخة حق شجاعة من فاطمة بنت أحمد الجهضمية (الزهراء السقطرية) (ق: ٣هـ/ ٩م):
ما بال صلتٍ ينام الليل مغتبطاً وفي سقطرى حريمٌ عرضة النهبِ
يا للرجال أغيثوا كل مسلمةٍ ولو حبوتم على الأذقان والركبِ
تبعتها كلمة حق لحسناء بنت أحمد بن سعيد الستالية (ق: 5هـ/ 11م) في وجه ريا ابنة السلطان النبهاني: “إن أباك كسانا حُلةً تَبْلى، وكسوناه حُللاً لا تَبْلى، فالفضل لنا عليكم”. وصولاً إلى بصيرة القلب الفقيهة عائشة بنت راشد الريامية (ق: ١١-١٢هـ/ ١٧-١٨م)، والتي رثاها الشاعر سعيد بن محمد الغشري الخروصي:
هي امرأة عمياء ولكن بفضلها توازن ألفاً من رجالٍ ضراغمِ
إلى السيدة التي جنَّبت عُمان أتون حرب أهلية، وشرور معتدٍ خارجي السيدة موزة بنت أحمد بن سعيد البوسعيدية (ق: ١٣هـ/ ١٩م)، والتي قدمت درساً في حب الوطن فقالت: “هذه مسقط هي كنز عُمان فينبغي أن نحمي كنزها برجال لا يميلون إلى خيانة، ولا يعن لهم الجبن عند الإعانة، فطمع الرجال لا يقطعه إلا سيوف رجال لا تنبو بأوجال”. ولم تنس الحفيدة سالمة بنت سعيد البوسعيدية (١٢٦٠-١٣٤٢هـ/ ١٨٤٤-١٩٢٤م) فضل بنت الإمام، فمن المنفى الذي اختارته في ألمانيا كتبت: “أريد أن أذكر أيضاً شخصية من عائلتنا تكذب قبل كل شيء تلك الحكايات عن نقص المرأة الشرقية، اعتبرت عمة أبي حتى يومنا هذا نموذجاً لدينا فقد كانت ذكية، شجاعة، وقوية العزيمة، تُروى حياتها وأعمالها المرة بعد الأخرى”.
ومع الشاعرة عائشة بنت سليمان الوائلية (١٢٨٣-١٣٤٧هـ/ ١٨٦٦-١٩٢٨م) وصفة الطمأنينة والسكينة والرضا:
إلى باب ملكك فوضت أمري لأنك تعلم سري وجهري
وفي فضلك الجم لي مطمع فلا أرتجي فضل عبد وحر
إلى من إلى بابه الملتجى إذا ضاق صدري أو حار فكري
ونكمل ثراء الكلمات مع شمساء بنت سعيد بن خلفان الخليلية (ت: ١٣٥٣هـ/ ١٩٣٣م): “لا رجل بعد عزان”، وفي رواية “لا بعد عزان رجل”. وكم عُمانية لخَّصت تضحياتها بمقولة “لا رجل بعد فلان”. ومع الجليلة ميزون بنت أحمد المعشنية (ت: 1413ه/ 1992م)، الأم التي أنجبت الابن البار بعُمان، والوالد الذي حفر محبته في قلوب أهل عُمان، قالت: “… فالمرأة هي الأم والزوجة والشقيقة والابنة.. فإذا نهضت المرأة كان ذلك دافعاً قوياً لنهضة المجتمع بأكمله”.
ومسك الختام مع الجليلة عهد بن عبد الله البوسعيدية حرم جلالة السلطان، التي سبقت أفعالها الأقوال، وصلت كلماتها هدية لكل عُمانية في يومها في السابع عشر من أكتوبر 2021م، قائلة: “تحية شكر وتقدير لكل امرأة تعلي مبادئ الخير وقيم التسامح والمحبة والعطاء، وتساهم في بناء هذا الوطن العزيز انطلاقاً من موقعها وواجباتها الاجتماعية والوطنية والإنسانية في مختلف الميادين، وفي كافة الظروف الاعتيادية والاستثنائية التي تمر بها البلاد”.
تلك القامات اللاتي هن بمثابة قدوات ونماذج نحتذي بهن احتفيت بذكرهن في حفل تدشين مبادرة ويكي نساء عُمانيات التي أشرفت عليها إحدى الطاقات الإبداعية الفاضلة سمية الوهيبية مع ثلة من المتطوعين، وبتعاون من وزارتي الثقافة والرياضة والشباب والتنمية الاجتماعية، وجهود كبيرة من الدكتورة سعيدة خاطر الفارسية في تحفيز الذاكرة وتجييش الوسائل للبحث عن سير رائدات النهضة العُمانية، وقد تشاركنا جميعاً إعداد قائمة النساء وقائمة المصادر والمراجع المساندة. ومن دروس كثيرة ومتنوعة استفدتها من تلك المبادرة، إلا أن الدرس الأهم هو اكتشاف حجم الفجوة على صعيد المصادر والمراجع، وعلى صعيد التسويق الرقمي ليس فقط بسير النساء وإنما بالمحتوى التاريخي بشكل عام، وهو ما أوصلني لنتيجة أننا نحن العُمانيون نعاني من ضعف مستوى تسويق الذات عموماً، فنحن لسنا مرئيين رقمياً كما نستحق وكما يجدر بنا.
وبما أن الأعياد والمناسبات مساحة لاستعادة ذكرى أو طرح فكرة أو تقديم رؤية، فمشروع توثيق سير نساء عُمان يبدو ملحًا وضرورياً حتى لا نكرر الأخطاء، فإذا كان حقل البحث التاريخي
يعاني من شح المادة التاريخية في فترات تاريخية قديمة فنحن نخلق ذات الإشكالية بعدم التأريخ لفترات تاريخية حديثة ومعاصرة، وهو ما ينبغي تداركه بمشروع علمي ووطني طموح تحت عنوان: “موسوعة نساء عُمان عبر الزمان”.
مراجع:
- الجهورية، أحلام بنت حمود. المجتمع العُماني في القرنين (4-5هـ/ 10-11م) من خلال بعض مسائل بيان الشرع لمحمد بن إبراهيم الكندي (ت: 508هـ/ 1115م). ط1، دار مسعى للنشر والتوزيع، الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء، مسقط: 2019م.
- الجهورية، أحلام بنت حمود. حضور المرأة في المصنفات الفقهية العُمانية (3-6هـ)، بيان الشرع لمحمد بن إبراهيم الكندي أنموذجا، ندوة: الحركة العلمية للمرأة العُمانية ودورها الحضاري، 14-15/10/2018م، جامع السلطان قابوس الأكبر، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية.
- الجهورية، أحلام بنت حمود. العُمانية نور بنت معروف: الحاكمة. جريدة الرؤية، 29 يوليو 2019م.
- الجهورية، أحلام بنت حمود. سيدات الفتح المبين (1) و (2). جريدة الرؤية، 9 و10 يوليو 2019م.
- الجهورية، أحلام بنت حمود. حفيدة الإمام المؤسس وسيدة السويق: جوخة بنت محمد البوسعيدية. مجلة الفلق الإلكترونية، ع112، سياسة/شخصية، 16 أكتوبر 2020م.
- الجهورية، أحلام بنت حمود. ثلاث سيدات في تقرير القنصل البريطاني بمسقط: نَوّار وحُذَام وبرْدَى، صحيفة أثير الإلكترونية، 27 مارس 2021م.
- الجهورية، أحلام بنت حمود. سيدتان في حياة السلطان قابوس طيَّب الله ثراه: الجليلة ميزون والسيدة أميمة. مجلة إشراق، ع8، مسقط، يونيو 2021م، ص19-23.
- الجهورية، أحلام بنت حمود. السيدة معتوقة بنت حمود البوسعيدية وستة سلاطين (ت: ١٣٥٩هـ/ ١٩٤٠م). مجلة الفلق الإلكترونية، ع1٢٢، ثقافة وفكر/ سياسة، ٦ سبتمبر 202١م.
- نماذج من الإسهام الحضاري للمرأة العُمانية عبْر التاريخ، إذاعة الشبيبة FM: 17 أكتوبر 2020م.
- حكايات أشهر العُمانيات في تاريخ عُمان وتأثيرهن على أهم الأحداث السياسية وغيرها، عُمان عبر الزمان، إذاعة الشبيبة FM: 17 أبريل 2019م.
- المرأة العُمانية: حضور مؤثر في التاريخ، كلية التربية بجامعة السلطان قابوس، المجموعة البحثية: التربية على المواطنة والدراسات الاجتماعية: 2 أبريل 2019م.
- المرأة العُمانية عبر التاريخ: حضور وتأثير، مبادرة: صباحات إبداعية/ مسقط، 25 يونيو 2021م.