بدر بن سالم العبري
في صباح يوم الثّلاثاء، في العشرين من أغسطس، بعد الفطور انتظرت وصول الأستاذ بيان، فقد حمل سيارته إلى (السّيرفس)، ومعالجة بعض الإطارات، حيث ينتظرنا طريق طويل برّا إلى شيكاغوا، وهي تبعد عن دالاس حوالي ستة عشر ساعة بدون توقف.
في الابتداء ذهبنا إلى مدينة دينسون، وتبعد عن النّزل ما يقرب من ثلاث ساعات، وهي مدينة ريفيّة تقع آخر تكساس من جهة ولاية أوكلاهوما، وهذه المدينة يكثر فيها المزارع والمزارعون، ولا ترى فيها عناصر الحداثة من حيث العمارات الشّاهقة، والأسواق العصريّة، والمولات الكبيرة، فأهلها يرفضون ذلك، ويعشقون حياة البساطة مع الطّبيعة، إلا أنّهم يعانون من انتشار المخدّرات بين النّاشئين والشّباب، كما لا توجد بها فرص كبيرة للعمل؛ لهذا العديد من السّكان خصوصا الشّباب يهاجرون إلى المدن الأخرى، ويأتون هنا لزيارة عائلاتهم أو الاستجمام مع الطّبيعة، وغالب السّكان في هذه المنطقة من البيض.
ذهبنا إلى منزل الأستاذ مفيد سعيد، وهو بهائيّ مولود في لبنان من أصول تركيّة، وهاجر إلى أمريكا، وعاش مزارعا في الرّيف، كما أنّه عمل في مستشفى كطباخ، وقد تطبع بعاداتهم، وأصبحت لغته العربيّة ضعيفة لأنّه كما أخبرني تمر سنوات لا يتحدّث بها، ولا يقرأ أو يستمع إليها، وفرح كثيرا بزيارتنا له، والتّحدّث معه بالعربيّة، وله زوجة أمريكيّة بهائيّة من البيض، ولمّا دخلنا بيتهم الجميل بين الزّروع والحشائش آوت إلينا الكلاب ملاعبة، والحقيقة لم نتعوّد على الكلاب، حيث تصيبنا خيفة منها، بينما هم متعوّدون عليها وكأنّها من أفراد الأسرة، يلاعبونها ويداعبونها، فلمّا رأت تحرجي منها أدخلتها في غرفة قريبة، كما وجدنا امرأة أمريكيّة أخرى من البيض من سكان المنطقة، وهي كانت مسيحيّة ثمّ أصبحت بهائيّة.
وكانت لديهم ضيافة تسعة عشر، “وهي القاعدة لحياة الجامعة البهائيّة الاجتماعيّة على المستوى المحلي”[1]، وفي الكتاب الأقدس: 57 “قدر رقم عليكم الضّيافة في كلّ شهر مرّة واحدة ولو بالماء، إنّ الله يؤلّف بين القلوب ولو بأسباب السّماوات والأراضين”، وجاء عن وليّ أمر الله شوقي أفندي [ت 1957م]: “إنّ الاشتراك في الضّيافة التّسع عشريّة ليس فرضا، ولكنّه أمر مهمّ جدّا، وينبغي لكلّ مؤمن أن يعتبر حضور الضّيافة واجبا شخصيّا، وامتيازا خاصّا”[2].
وكما قلنا في الرّحلة الشّيكاغيّة أنّ للبهائيّة تسعة عشر شهرا في العام، وعدد أيام الشّهر تسعة عشر يوما، فتكون الضّيافة في اليوم الأخير من كلّ شهر، بلا تكلّف على المضيف، ولو أكرم ضيوفه بالماء فقط، والهدف منها تحقق المشورة بينهم، والإصلاح بين المتخاصمين، ومساعدة المحتاج، وقراءة ما يصدر عن بيت العدل والمحفل المركزي، ورفع ما يلزم بعد المشورة إلى المحفل المركزي، والّتي قد يرفع المهم منها إلى بيت العدل في حيفا مركز البهائيين في العالم أجمع، ولهذا يقسّمون الجلسة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول قسم الرّوحانيات من دعاء وذكر، والقسم الثّاني القسم الإداري، وفيها يناقشون رسائل بيت العدل إن وجدت، وكذا المحفل المركزي أي في الدّولة القطريّة، والمحفل المحلي أي في المدينة، وكذا يناقشون ما يتعلّق بالمنطقة واحتياجتها، ثمّ القسم الثّالث أي القسم الاجتماعي، وفيه الإصلاح بين المتخاصمين والأكل والشّرب مع المسابقات للأطفال والحضور.
وفي الجلسة بعد الدّعاء قرأت رسالة بيت العدل، وتضمنت دعوة البهائيين إلى الاهتمام بالعصر، والمشاركة في إصلاح العالم، والمشاركة البناءة في حياة المجتمع، دون التّدخل في الأمور السّياسيّة؛ لأنّ التّدخل يؤدي إلى هدر طاقاتهم وتبديدها، وركزت رسالة بيت العدل إلى ما تعانيه المجتمعات البشريّة من انحدار الحوارات العامّة، لتنزل إلى دركات الضّغينة والعداء، والتّعصب للأحزاب، وما يسايرها من عبارات القدح والاستهزاء، ولهذا كما لا يصح للبهائيّ أن يدّخل في صراع السّياسات، عليه أن يجتنب أيضا الصّراعات الحزبيّة والأثنية، وخصوصا ما يحدث في وسائل التّواصل الاجتماعي.
وبعدها ناقشوا الاحتفال الّذي سيقيمونه بمرور مائتين عام على ولادة الباب عليّ محمّد الشّيرازيّ [ت 1850م]، والّذي سيقام في بهائي سنتر في دالاس كما أسلفنا سابقا، وسلّم الأستاذ بيان الحضور بطاقات الدّعوة، وكما سيقام أيضا في كليّة Austin College في مدينة شيرمان قريب دنيسون، ثمّ ناقشوا قضايا مجتمعيّة، كما أخذني حديث طويل مع الأستاذ مفيد سعيد عن لبنان وحياته خصوصا.
وبعد الظّهر ودعنا الأخوة، ثمّ ذهبنا إلى مطعم مكسيكي للغداء، ثمّ انطلقنا إلى ولاية أوكلاهوما، وهي مدينة اقتصاديّة نفطيّة منتجة للغاز الطّبيعي مثل تكساس، وأوكلاهوما تعني النّاس الحمر، وهنا رأينا في بدايتها مول كبير، فأخبرني الأستاذ بيان هذا مكان للعب القمار، فطلبت منه أن ندخل ونرى، وشخصيّا أول مرة أدخل مكانا للعب القمار، وفي أسفله قاعة كبيرة لذلك، وفي الطّابق الثّاني محلات تجاريّة ومحلات أخرى، وفي تكساس يمنع لعب القمار لأسباب دينيّة، ولكون الهنود الحمر لهم تعلّق كبير بالقمار فتجد وقت الإجازة يتوافدون بشكل كبير من دالاس إلى أوكلاهوما.
ثمّ مررنا بولاية كانساس، وتعني شعب الرّيح الجنوبيّة، وجاء في ويكبيديا: “استقر في كانساس الأمريكيون من ولاية ماساتشوستس منذ عام 1850م، والّذين كانوا يحاولون إيقاف العبوديّة في ولاية ميزوري المجاورة”، وسكنها الهنود الحمر منذ أكثر من ألف سنة.
ثمّ عند المغرب دخلنا ولاية ميزوري، ومررنا مع الغروب على نهر ميزوري، أطول نهر في أمريكا الشّماليّة، وينبثق من نهر المسيسيبي، وهو في قمّة الجمال والرّوعة، وولاية ميزوري من الولايات الشّهيرة في أمريكا، ولها تأثير كبير في التّأريخ الأمريكي خصوصا الحديث، وهنا توقفنا للصّلاة والعشاء وأخذ الرّاحة، ورأيت محطات البترول في أمريكا كبيرة، ومنظمة، وتجد في “سّيلكت” ليس كما عندنا، ففيها جميع الخدمات، من مقاهي، ومطاعم سريعة، ومشروبات، ومختلف أنواع القهوة، وهنا بنفسك تختار من المشروبات الغازية والقهوة بحيث تختار الكوب المناسب لك، ثمّ تذهب إلى المحاسبة، كما يتوفر في “سّيلكت” ما تحتاجه من أغراض السّفر، ودورات مياه، ومقاعد للاسترخاء والرّاحة وتناول الطّعام، وتذكرت كبر حجم هذه المحطات، وكثر الشّاحنات بالطّرق في المملكة العربيّة السّعوديّة، فأخذني بعض الحنين لذلك، فلنا في طرق المملكة ذكريات عديدة.
وهنا أخذ الأستاذ بيان شيئا من الرّاحة، فاستثمرت الوقت في رياضة المشي والتّأمل في المواقف، وأردت أن أسوق عنه، فلا أشعر بالتّعب، إلا أنّه لم أكن أملك حينها رخصة قيادة دوليّة، لنواصل بعدها الطّريق، وندخل في ولاية إلينوي، وهي الولاية الّتي تنتمي إليها مدينة شيكاغو، وسبق الحديث عنها في الرّحلة الشّيكاغيّة.
لنصل صباح يوم الأربعاء إلى شيكاغو، في الحادي والعشرين من أغسطس، لنذهب إلى نزل MOTRL 6، وهو ذات النّزل الّذي نزلنا فيه سابقا في رحلتنا إلى شيكاغو، فأخذنا راحة طويلة، وحتّى المساء تجولنا في شيكاغو وأسواقها لنستحضر رحلة 2018م، ومن يزر شيكاغو لمرة يشدّه الشّوق لزيارتها سنويّا، لنأخذ راحة ونستعد لافتتاح المؤتمر، وجدول محاضرات اليوم الأول منه كما سنرى في الحلقة القادمة.
الهوامش:
[1] مارتن: دوغلاس، وهاتشر: وليام؛ الدّين البهائي: بحث ودراسة، مرجع سابق، ص: 224.
[2] خلاصة وترتيب أحكام الكتاب الأقدس وأوامره، ملحق بالكتاب الأقدس، ص: 216.