الكاتب: خالد محمد عبده
قدّم عبد الله جنّوف في كتابه “حياة محمد قبل البعثة” محاولة جيّدة لقراءة شطر من سيرة النبي، تعد خطوة على طريق إعادة كتابة السيرة، وبصورة خاصة ما تعلق بطفولته صلى الله عليه وسلم وصباه وشبابه قبل الأربعين. راجع هذه الدراسة الأستاذ عبد المجيد الشرفي، والأستاذ محمد بن الطيب. تبرز في الدراسة إشكالية الرواية، وهو ما يذكّرنا بعمل كان قد بدأه الشيخ محمد عبد الله دراز في وقت سابق، كان الشيخ دراز قد أراد أن يكتب سيرة للنبي معتمدًا على الروايات التي يمكن وصفها بالصّحة عند أهل الصناعة الحديثية، ويُقال: إن الروايات لم تسعفه لكتابة هذه السيرة (الصحيحة)، فلم يجد من الصحيح ما يكفي لرسم صورة متكاملة لحياة النبي قبل البعثة وبعدها.
كذلك فإن المرء يتذكّر عمل الشيخ محمد الغزالي فقه السيرة الذي نصّ صاحبه على أنه يكتب صفحاته ليس بعين الحياد أو الموضوعية، بل كجندي من جنود النبي وتابعٍ له، ورغم أن الغزّالي حاول استخدام منهج أكثر عقلانية من معاصريه في رسم ملامح السيرة إلا أن سيرته لم تلق ترحابًا من جمهور ليس بالقليل من مسلمي اليوم (السلفيين)، نظرًا لاحتوائها على مرويات ضعيفة لا يتم الاعتماد عليها، وكان صاحب الحاشية الشهير من المعارضين، يسجّل في كل صفحة اعتراضاته على ما داخل المتن الغزالي من مرويات السيرة والحديث، غير ملتفت مطلقًا إلى الغاية في استخدام حديثٍ بعينه واستبعاد غيره. كان محمد الغزّالي من سعة الصدر أن ترك حواشي الألباني ضمن هذا الكتاب الذي دوّنه بحبّ وإجلال!
في سياقٍ آخر كتبَ محمّدُ عزة دروزه كتابه عن سيرة النبي في مجلدتين كبيرتين معتمدًا على القرآن وملتمسًا في آياته ملاذًا آمنًا يعصمه مما وقع فيه غيره عند الكتابة عن النبي، ومحاولاً أن يدفع عن النبي ما ألصقه المبشّرون والملحدون بسيرته! ومحاولة دروزة تبدو طريفة بالفعل في وقتها، وتذكّرنا بما فعله أحد الكتّاب المصريين حين كتب مجلدًا ضخمًا بعنوان: (مُحمّد في طفولته وصباه).. لكن ما كُتب ولا يزال يُكتب عنه بيقين في مؤلفات حديثة يظلّ محلّ إشكال. ومن ذلك ما يتعلق بتحنّث النبي في غار حراء.
تعبّد النبي قبل البعثة والنظرة الصوفية إليه
يسألُ خميس العدوي الشيخ السيابي عن اعتماد الصوفية (تحنّث النبي في غار حراء) واعتبار ذلك مصدر مشروعية لهم في سلوكهم وتصوفهم، فيجيب الشيخ قائلاً: “وأما ما فعله النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهذا ليس فيه مشروعية على الإطلاق، لأنه فعله قبل البعثة، أما بعد البعثة –وهنا تكون المشروعية– لم يمارس النبي عليه السلام الخلوة والانعزال والتحنث … ولم يوص به أصحابه، ولم يمارسوه، وهنا يتبين عدم المشروعية. وعندما كان يفعله النبي عليه السلام، فلأن المجتمع مختلف، لعله كان يتأمل في الديانات السابقة كالديانة الإبراهيمية التي وجد بعض ملامحها عند قومه قريش في مكة. وبعد أن أكرمه الله تعالى بالنبوة لم يمارس التحنث ولا الخلوة ولا الانعزال، وبالعكس شنّ حملةً على الانعزال عن الحياة ونهى عن الرهبانية قائلاً: (لا رهبانية في الإسلام) … طالما أنّكم مسلمون لا يمكنكم أن تكونوا منعزلين عن الحياة والناس، فلا رهبانية في الإسلام، صحيح أنه بصيغة الخبر، إلاّ أنّه في معنى النهي” ! (1)
تعد مسألة تعبّد النبي قبل البعثة مسألة خلافية عند جمهور العلماء من المسلمين، وقد صنّف أحد العلماء رسالة في جواب ما يُفيده علماء الدين وأئمة المسلمين في تعبّده صلى الله عليه وسلّم قبل أن يُوحى إليه، هل كان على ملّة من الملل أم لا ؟ وإذا قُلنا بأنه كان على ملّة فأيُّ ملّة هي؟ وإذا عيّنا الملّة فكيف كانت الصلاة فيها ؟ هل هي مُشتملةٌ على ركوعٍ وسجودٍ، كما في صلاة أهل الإسلام أم لا؟ وهل كان فيها قراءة شيءٍ من كُتبهم المنزّلة أم لا ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة.
وتناول كتّاب السّير ما يتعلق بهذه الفترة بشيء من تضارب الآراء، فالنبي قبل البعثة كان متنسكًا عازفًا عن كل الممارسات التي يفعلها غيره، فهو في طفولته لم يمارس اللعب كالأطفال، لأن الأطفال كانت تلعب بالحجارة متأثرة بعقائد أهلهم. لكن هذه الصورة لا تساعدنا الأخبار التاريخية بشكل قاطع على قبولها، كما أنها تجعل طفولة النبي غير سوية -بتعبير عبد الله جنّوف- كما أن النبي –حسب طبقات ابن سعد- أخبر عن نفسه متحدثًا عن زيارته يثرب مع أمه، قائلاً: “كنتُ ألاعبُ أنيسة: جارية من الأنصار على هذا الأُطُم، وكنتُ مع غلمان أخوالي نطيّر طائرًا كان يقع عليه” ونظر إلى الدار فقال: “ههنا نزلت بي أمّي .. وأحسنت العوم في بئر بني عديّ بن النجار ..” . (2)
إذا نظرنا إلى نقطة بعينها –مثل طفولته- ووجدنا أن القطع في الحديث أمر صعب للغاية، فمن الصعب أن نقطع في مسألة تحنّثه صلى الله عليه وسلّم قبل البعثة، هذا بصرف النظر عن تنحية البعض مثل هذه الأخبار، واعتبار كثيرٍ منها مختلق، كما فعل هشام جعيط مع قصة الغار .(3)
كذلك يصعب علينا القول مع الشيخ السيابي أن النبي لم يأمر ولم يحض أحدًا من أتباعه على اتباع مسلكه قبل البعثة، خاصة إذا ربطنا ذلك بما أورده الشيخ السيابي من نهي النبي عن الرهبانية، فالنهي في حدّ ذاته اختلفت العلماء ومفسرو القرآن في تأويله، كما قرأه غير واحد من الدارسين للتصوف بشكل مختلف عما هو شائع .(4)
فمن المعروف أن الرهبانية قيمة عليا في حقل الوجود المسيحي ، وقد تحققت فـي رموزهم الوجدانية ، بروايتهم ورواية القرآن الكريم : فالسيدة مريم المصطفاة على نسـاء العالميـن لم يمسسها بشرٌ،(5) وابن خالتهـا “يحيى”، جاء على صورتها في الرجال فكان سيداً وحصوراً(6)، ألم يكن نظر والده على السيدة في محرابها حين دعا ربَّه؟!(7) وأيضاً السيد المسيح لم يقرب النساء .. ففي الوجدان المسيحي الرهبنة جزء من الدين ورتبة دينية وهـي من مكونات الكمـال الإنسانـي لأنَّها من سنن إنسانهم الكامل وهـو السيـد المسيـح .
أما في الإسلام فالأمر مختلف، لأن النبي حُبِّبَ إليه من دنيا الناس ثلاث، منها: الطيب والنساء.(8) ونفهم من سياق بعض الأحاديث أن النبي لم ينتقد مسألة الرهبانية لدى المسيحيين، ولكنه حرص على أن تتّبع أمته سنته في الزواج كما في الصيام والقيام . يقول لشخص اسمه عَكّاف وكان تاركاً للزواج ، مع اقتداره: ((لو كنتَ في النصارى كنتَ من رهبانهم، إن سنتنا النكاح)) (9) .. ولا يجد النبي حرجًا في مخاطبة الرهبان بصفتهم –كما في مسند أحمد بن حنبل 1/ 461: ((يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان)). ويؤمن النبي على قول عجوز من عجائز الرهابين –كما في سنن ابن ماجة كتاب الفتنة- قائلا: ((صَدَقتْ! صَدَقتْ!)).
وقد أوضح النبي بأنه “لم يؤمر بالرهبانية”، في صيغتها المسيحية وأنها لم تُكتب على أمته؛(10) لكنه قال فيما نُسب إليه: (( لكل نبي رَهْبَانيّة ، ورهبانيّة هذه الأمة الجهاد في سبيل اللّه عزّ وجل )).(11) فالجهاد رهبانية الإسلام وهو جهادان، جهاد أصغر وجهاد أكبر: قربان روح يتم دفعة واحدة، وقربان نَفْس في مجاهدةٍ تتواصل مع الأنفاس –كما تصفه سعاد الحكيم . (12)
ويمكننا قراءة الآية الكريمة التي تتحدث عن الرهباينة على النحو التالي:
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا- وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ- وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْـــــبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا- مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ- إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ- فَمَا رَعَــوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا- فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ. [سورة الحديد آية 27].
فالقرآن هنا يمدح الرهبانية، ولم يذّمها كما هو شائع، ولكن الذّم لمن لم يرع هذه الرهبانية حقّ رعايتها. سنلاحظ أن التراث الإسلامي لم يتحرّج المسلمون فيه من إطلاق وصف (الراهب) على أحد الصحابة الكبار كـ أويس القرني، فكما يُورد الحاكم في مستدركه، أويس راهب هذه الأمة؛ وأبو بكر المخزومي وكان يقال له راهب قريش، والدارميّ كان يُلقّب براهب الكوفة، والمرداد أحد كبار شيوخ المعتزلة ، كان يُسمّى “راهب المعتزلة”.
هذا وقد عقد ابن سعد في طبقاته فصلاً بعنوان: “شدّة العيش على رسول الله صلى الله عليه وسلّم” يصوّر فيه فقره المدقع وحياة الزهد الشديدة وما كان يفرضه على نفسه من الجهد والعزوف عن الدنيا، فذكر أنه صلى الله عليه وسلّم، كان يشد صلبه بالحجر من الجوع، وكانت تمضي به الأيام الثلاثة دون أن يدخل فمه طعام، ولم يشبع آل محمد ثلاثًا من خبز حتّى قُبض، وكانت تمرّ بهم الشهور المتوالية لا يُوقد في شيء من بيوته نار، وكان النبي يتلوى جوعًا ويتناول طعامه في ظلمة البيت، لأنه لم يكن لدى أهله سراج، وما أبلغ هذه العبارة التي قالتها عائشة لما أن سألها سائلٌ: أما كان لكم سراج؟ فقالت: لو كان لنا ما يُسرج به أكلناه! هذا في مأكله، أما في أثاث بيته فلم يكن به شيءٌ، ولم يكن يجلس إلاّ على التراب.(13)
بمثل هذه الصورة التي يقدّم بها ابن سعد النبي اقتدى كثيرٌ من الصوفية بما وصلهم من سنن نبوية، وعدّوا النموذج المحمدي نموذجًا للإنسان الكامل، والتقطوا المعنى الصوفي في حياة النبي وأرادوا أن يسيروا على نهجه، ومن يقرأ سير الصحابة والتابعين سيجد أن كثيرًا منهم سلك طريقة النبي في الحياة محققًا المعنى الصوفي في حياته.
كما أنه لم يكن مفهوم الصوفية عن أن الحياة لهو ولعب فلا لا بد أن نتخلى عنها- كما يقول الشيخ السيابي ! فهناك الكثير من النشاطات الصوفية التي يمكن رصد مشاركتهم فيها، حتى أن لهم فلسفة خاصة في رؤية اللهو والهزل فهما وسيلتان من وسائل بلوغ الحقيقة عند الصوفية! فكلّ ما في الوجود يساعد الإنسان على بلوغ مراده، واقرأ إن شئت قول ابن الفارض:
ولا تك باللاهي عن اللهو جملة فلهو الملاهي جد نفس مجدةِ
يقول شارحه معلّقًا على هذا البيت: فإن باطن ذلك اللهو الهزل والفاسد الباطل والمتغيّر الزائل أمرٌ حقيقيٌّ جدّ صالح حق ثابت، لو أعرضت عنها فاتتك علوم حقيقية وحكم خفية مكنونة في ذلك الظاهر وُحرمت رؤية الحقّ في كلّ شيء ورؤية الأشياء كما هي !
المصادر:
1-راجع التصوف في عُمان، ص 14، 15.
2-راجع حياة محمد قبل البعثة، عبد الله جنّوف، نشرة دار الطليعة، بيروت 2012 ص 36، 39، 40.
3-راجع هشام جعيط في السيرة النبوية (1)، الوحي والقرآن والنبوة، بيروت دار الطليعة، ط1 1999، ص 39.
4-راجع على سبيل المثال محاولة عبد الرحمن بدوي في كتابه تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى نهاية القرن الثاني ، وقراءة محمد علي أبي ريّان في كتابه الحركة الصوفية في الإسلام.
5- الإشارة إلى الآية رقم 20من سورة مريم: قَالَت أنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيَّاً. .
6-الإشارة إلى الآية رقم 39 من سورة آل عمران: فَنَادَتْهُ الملائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقَاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيَّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ.
7-هذه الإشارة إلى التشابه بين السيدة مريم ويحيى عليهما السلام مستفادة من لطيفة وردت عند الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي فصّلت الحديث فيها الدكتورة سعاد الحكيم في كتابها المرأة والتصوف والحياة.
8-الإشارة إلى الحديث الصحيح الوارد في مسند الإمام أحمد برواية أنس: ((حبّب إليّ من الدنيا: النساء والطيب وجُعلتْ قرّة عيني في الصلاة)).
9-راجع الحديث بأكمله في مسند الإمام أحمد.
10–قال رسول الله لعثمان بن مظعون: ((يا عثمان ، إني لم أُؤْمر بالرهبانية)) [أخرجه الدارمي في سننه، كتاب النكاح، باب النهي عن التبتُّل، ج 2، ص 133]. وقوله لعثمان بن مظعون أيضاً: ((يا عثمان، إن الرهبانية لم تُكتب علينا)) [مسند الإمام أحمد، ج 6، ص 226] .
11- مسند أحمد، باقي مسند المكثرين، حديث رقم (13396).
12-راجع سعاد الحكيم، المرأة والتصوف والحياة، نشرة طواسين، بيروت 2017، ص 148.
13-راجع عبد الرحمن بدوي المعنى الصوفي في حياة النبي، محاضرة ألقاها في بيروت، كلية الآداب العليا، وقارن طبقات ابن سعد 2/ 158-160 طبعة مصر 1939.