شؤون عمانية- علياء الجردانية
“تنتابني غصة كلما مررت أمام منزلي الذي قضيت فيه أجمل ذكرياتي”، هكذا كانت الأم زمزم تعبّر عن حزنها الذي تشعر به بعد 50 عاما من الألفة والمحبة كانت تقضيها مع زوجها في هذا المنزل، واليوم فارقها بعد سنوات من المعاناة مع الأمراض المزمنة.
الأم زمزم واحدة من مئات الأرامل اللاتي يتكبدن عناء فقد أزواجهن وتحمل المسؤولية الملقاة على عاتقهن، وضربن أروع الأمثلة في التضحية من أجل أبنائهن وتوفير العيش الكريم لهم.
تزوجت الأم زمزم في عمر مبكرٍ جدا (11 عاماً) وكانت تعيش مع زوجها وأمه في منزل متهالك يبلغ من العمر عتيا، لم تكن تهتم بالمظاهر أبدا قدر اهتمامها بالعيش في سلام وحب ورضا مع زوجها الذي ضحى كثيرا لأجلها ولأجل أن تعيش حياة سعيدة معه.
تستذكر الأم زمزم لحظة سماعها خبر وفاة زوجها، حيث كانت قد أعدت له العشاء وذهبت لتتفقد أحوال منزل أهلها، وبعد عودتها للمنزل رأته قد فارق الحياة، وكان صراخها يُسمع كل أهالي القرية الذين هرعوا لمعرفة ما يحدث، فقد تم نقله للمشفى فورًا، وكانت الأم زمزم في حيرة من أمرها، فتارة يقال لها أنه ما زال على قيد الحياة وتارة أخرى قد فارقها، وبين هذا وذاك كانت غارقة في بحر من دموعها الثقال، فلم تكن تتخيل أنه سيفارقها حيث أنه كان بخير ولا يشكو سوى من أمراضه المزمنة المعتادة.
خارت قواها بعد فقد الزوج وأصبحت طريحة الفراش، فلا تعلم ما الذي ينتظرها بعد فقدها العظيم، فقد كانت تعلم أن المنزل الذي كانت تقطنه ليس ملكا لزوجها وستعيش بلا مأوى، ناهيك عن مشاكل أخوته في الحصول على الميراث.
الأم زمزم عُرف عنها أنها الأم الحنون في تلك القرية فجميع الأطفال يحبونها، ودائمَا ما توزع عليهم النقود وتفرحهم بأبسط الأمور، فهي لم تُرزق بأطفال ولكنها رزقت حب الناس والأطفال.
مرت الأيام وقد بدت علها مظاهر التعافي البدني، لكن جرح القلب لا يبرأ أبدا، خاصة وأنها لم ترزق بأبناء يكونوا لها السند والعون بعد زوجها، ورغم ما مرت بها من أيام عصيبة إلا أن شفتيها تبتسمين دائما وتردد برضا: “إن الله قد منّ وأحسن علينا إذ أننا عشنا منذ الصغر ولم نطرق باب أي مخلوق قط لسؤاله عن أي حاجة، كما أننا ليست لدينا أية ديون لأحد، فعندما أشتري بعض الحاجات من نساء الحارة سرعان ما أدفع المبلغ مباشرة، فلله الحمد ربنا قد أكرمنا بالكثير وواجب الشكر علينا”، تقول ذلك وهي في قمة الرضا رغم فقدها الأخير وخسارتها الكبيرة ألا وهي فقد زوجها.
لم يكن ابتلاء وفاة الزوج هو الوحيد، فقد تلقت خبر وفاة والدها بعد أشهر قليلة من وفاة زوجها وكانت صدمة أخرى لها، حيث أنها بكر والديها وهي الطفلة المدللة لدى والدها الذي يغمرها بالحب والسعادة، كان الحزن يعم المكان، ولكن رغم ما مرت به إلا أنها محتسبة أمرها لربها، ومؤمنة بقضائه وقدره.
وما هي إلا أيام وأُصيبت والدتها بجلطة دماغية وأصبحت طريحة الفراش، حيث أنها أصبحت بكماء لا تستطيع الكلام مثل عهدها السابق، وأصبحت كطفل يحتاج إلى اهتمام، فما كان للأم زمزم إلا أن تصبر وتقاوم كل ما تواجهه وتوكّل أمرها لربها، فهي اليوم تعيش في منزل والدتها وتعتني بها وتقدم العون والمساندة لها، فليس لها بعد الله إلا والدتها.
تستذكر حديثها والدمعة في عينيها: “كلما مررت من أمام منزلي يمر عليّ شريط ذاكرتي برفقة زوجي، حيث كان السند وساعدي الأيمن وكان يساعدني كثيرًا في أعمال المنزل وسقي المزروعات، وقد كان يهتم بأموالنا بما فيها المزارع فلا أسأل عن أي شي، واليوم وبعد رحيله أشعر بالعبء الكبير على كاهلي”، تقول ذلك وتعابير وجهها تكاد تنفطر من الحزن العارم عليه.
اليوم تقف الأم زمزم وهي تناظر منزلها الذي عاشت فيه سنين طوال من الود والمحبة وهي تلوح بيدها “الوداع” وفي قلبها تردد: “سأذكرك في صلاتي وسأبسط يدي للصدقة عنك فأنت باقٍ في قلبي ما حييت”، ورغم كبر سنهما إلا أن حبهما كان عميقا جدا عميقاً للحد الذي صبرا فيه على الحلوة والمرة دون خيانة.