د. معمر بن علي التوبي
أكاديمي وباحث عُماني
الشك المنهجي طريقة تقود في كثير من الأحيان إلى بلوغ معرفة يقينية عالية، ومنهجية الشك المنهجي تبدأ بطرح الأسئلة الشكّية التي تُعبّر عن محاولاتنا الجامحة في بلوغ معرفتنا بالأشياء، وهنا قبل طرح الأسئلة لابد من عملية التجرد الكاملة من أي تأثيرات خارجية مهما كانت وبلوغ درجة الحيادية والانتصار للمعرفة لا سواها. من الممكن أن نجد في قصة حي بن يقظان الذي نقلها لنا ابن طفيل وترجمها مثالا يصور ماهية مرادنا بالشك المنهجي المبني على أسس التجرد والحيادية والانطلاق في طرح الأسئلة العميقة التي تتشعب منها الأسئلة الفرعية الأخرى حتى بلوغ مراحل معرفية أعلى؛ فكل جواب على سؤال سابق يقود إلى سؤال شكي جديد لابد من الإجابة عليه من خلال أدوات المعرفة المتوفرة وأهمها العقلية والحسية، وهذه سلسلة لا تنتهي؛ فمهما بلغنا من المعرفة فهذه المعرفة تظل نسبية والشك المنهجي وسيلة لمواصلة البحث والترقي المعرفي.
الشك المنهجي لا يعني رفضنا للمعرفة التي نتلقاها وكذلك لا يعني تسليمنا المطلق لها ولكن يعني التحقق المعرفي من خلال التجرد من التأثيرات مثل مسلّمات التراث والمجتمع التي لا يقبل أصحابها أن توضع في موضع النقاش كونها مسلّمات تم التسليم بصحتها بشكل مطلق وفق أهواء المجتمع ورغباته، وكذلك من خلال التجرد من الميل الذاتي (الداخلي) العاطفي منه والعقلي والالتزام بمبادئ المعرفة الصارمة التي تقاوم كل رغبة وتأثير. لا يمكن أن يتحقق ذلك دون إدراكنا لأسس معرفية مهمة مثل أن الأشياء في جوهرها حقيقة مطلقة ولكن فهمنا لماهيتها أو بالأحرى لحقيقتها وفق وسائلنا المعرفية المحدودة فهي نسبية تقبل النقد والتغيير؛ فقديمًا النار حقيقة مطلقة لوجودها والإحساس بها ولكن ماهيتها كانت مجهولة أو وفق معرفة بدائية لا تصل بالعلم بصلة؛ حينها تفرض علينا هذه المسلّمة قبول حقيقة وجود النار بشكل مطلق ولكن آلية فهم الإنسان البدائي لحقيقة النار ظلت نسبية وتقترب إلى مطلق الفهم (دون بلوغ الحتمية أو المطلق النهائي) من خلال تطور الوعي وتراكماته المعرفية عبر الزمن وتكرار التجربة الحضارية والعلمية وتطورها. سبق وأن أشرت في كتابي الأول عن التفسير الأقرب للوعي الذي وجدته بمعنى العقل وهما (الوعي والعقل) إشارة إلى معنى الروح، وهذا يفسر لنا أن الوعي (العقل) بقدراته المحدودة وغير المطلقة قابع في دائرة النسبية التي لا تمكنّه من بلوغ الإدراك المطلق والحتمي بالأشياء والظواهر وتظل نسبية الإدراك تلاحقه حتى في أقصى حالات اليقين العلمي، ومن يقل غير ذلك فقد وقع في فخ الجمود العلمي الذي لا يشترط حينها مواصلة البحث بعد كل نظرية علمية مهما بلغت وفق العقل الإنساني المستند إلى ما خلصت إليه التجربة والاستنتاج أعلى مراتب الفهم ومنحته أفضل الفوائد العلمية.
هنا لا يمكن أن نقيس ذلك على اليقين الإيماني الذي قد يحاول البعض أن يساومنا عليه من خلال ما يعرّفه البعض بنسبية الإيمان أو عدم وجود حتمية للإيمان كون أن الإيمان مبني على أسس جوهرية مطلقة وليس وفق تفاصيل معرفية نسبية؛ فإيماني بوجود النار أو أي مادة أخرى -مثلًا- أساسه حقيقة وجود النار وإحساسي بها وليس بناءً على تفاصيل ماهية النار التي لا يمكن أن أصل لمطلق تفاصيلها، وهذا ينطبق على إيماني بوجود الخالق نتيجة شواهد جوهرية مطلقة مثل التصميم الكوني الذكي وتطبيقًا لمبدأ السبيبة، ومع وجود وسائل إرشادية لمعرفة هذا الخالق بواسطة الرسل والكتب فهذا دافع إلى وجود الحجة التي تدفعني إلى مضاعفة الإيمان حتى مع وجود نسبية الإدراك، وهذا ما يمكن أن نراه واقعًا في حالتنا الإيمانية نحن المسلمين؛ فمع وجود الشواهد الكونية الكلية والدقيقة نرى حقيقة مطلقة حتمية تدل على وجود خالق ومصمم لا تقبل أي نسبية في ماهيتها، وكذلك مع وجود كتاب مرشد ومبين (القرآن الكريم) فنحن أمام معجزة بيانية توضح لنا المقاصد والمعاني والمعالم الدينية بصبغة إيمانية فريدة من نوعها وهذا ما يدفعنا أيضا إلى تبني منظومة إيمانية تقبل حتمية وجود الخالق الكامل المطلق وفي الوقت نفسه تقبل نسبية فهمنا للتفاصيل الإيمانية والدينية التي بعضها يكون في دائرة الغيب. أما من زواية الشك المنهجي في قضية الإيمان فهي عملية فطرية طبيعية يقوم بها العقل الإنساني الواعي سعيًا لمعرفة الوجود، وبحتمية وجود الشواهد والأدلة الكونية التي تجعل من العقل علمًا ومنطقًا يرى ويستنتج مطلق مبدأ الإيمان، وقد يكون هناك مدة زمنية متفاوتة من عقل إلى عقل لبلوغ هذه الحتمية في إدراك ماهية الوجود وجوهره الذي لا ينفصل وجوده دون وجود خالق كامل مطلق؛ وحينها يصل العقل إلى مسلّمة الإيمان المطلق والحتمي كون الجوهر والحقيقة الواحدة لا تحتمل التجزئة أو الاحتمالات مثل حال فهم العقل مطلق حقيقة وجود النار وماهيتها والإيمان بوجودها ولو بعد فترة زمنية قصيرة خلال مراحل تطور حواس الإنسان وإدراكه بعد ولادته. أما بلوغنا مراحل متقدمة من الإيمان الذي يُعنى بتفاصيل الإيمان وأسراره فهذه عملية تتداخل فيها أساليب المعرفة ومصادرها مع وجود الشك المنهجي.
هنا نحن نطمئن أن وجودنا مع الشك المنهجي هي وسيلة ليست لطمس الإيمان (الجوهر المطلق والحتمي)، بل على العكس فالشك المنهجي وسيلة لتطور الإيمان واكتشافه ولأجل ضمان تطور الوعي والمعرفة النسبية وبلوغ درجة إيمانية عالية ويقين معرفي نسبي أثناء محاولتنا لفهم كل ما يتعلق بمضمون الإيمان وماهيته، وهنا النسبية في الإدراك تدل على أنه مهما بلغنا من العلم والمعرفة في فهم الإيمان ومتعلقاته الدينية -المطلقة في جوهرها وماهيتها- فإن العلم والمعرفة المطلقة لا يعلمها إلا من تفرد في خلقها وصنعها وصدق الله حين قال:(٠٠٠٠وَما أوتيتُم مِنَ العِلمِ إِلّا قَليلًا) (الإسراء،85)؛ فتتضح الإشارة إلى نسبية الإدراك والمعرفة.