بدر بن سالم العبري
في صباح يوم السّبت العاشر من أغسطس أخذت شيئا من الرّاحة، ولكون الأستاذ بيان مرتبطا بعمله أخذت جولة في اكتشاف منطقة اللّاجئين والمشردين، فوجدت فارقا كبيرا بين هذه المنطقة وما رأيته في بعض الدول العربية من وضع المشردين مثلا من قذارة وسوء تنظيم، ففي منطقة فيكروا ميتوا تجد النّظام والنّظافة، وتجد الشّوارع وأماكن المشي والحدائق والملاعب بشكل منظم، ولا ترى البيوت المتنقلة والعشوائيّة، ولم أجد متسوّلا يأتي لطلب المال، ووجدت أغلبهم من البورميين، ويسكنها العديد من المسلمين، ولهم مساجدهم، وشاركتهم الصّلاة لاحقا في بعض الأوقات، وهم فيما يبدو على المذهب الشّافعي.
وعموما لمّا رجع الأستاذ بيان في الثّانية ظهرا ذهبنا إلى المطعم المكسيكي Chipotel Mexican Gril للغداء، فقد أعجبت من الرّحلة السّابقة بالمطاعم المكسيكيّة، إلا أنّ لها في تكساس طعما خاصّا من حيث شكل المطعم ذاته، والعاملين فيه، وما يقدّم، وخدماتهم، وحسن تعاملهم وابتسامتهم، مع الموسيقى الأسبانيّة والمكسيكيّة بإيقاعاتها الرّائعة، وكأنّك في الجزء الجنوبي من أمريكا كما نشاهد في الأفلام المكسيكيّة، كما أنّه في دالاس تجد جميع المطاعم، وبأشكال متنوعة، العربيّة بأنواعها، الشّاميّة والمصريّة والمغربيّة والعراقيّة، والمطاعم التّركيّة والإيرانيّة والهنديّة والصّينيّة، بجانب المطاعم الغربيّة، وعندهم أيضا في تقديم الطّعام أعراف متباينة، فمنها ما يقدّم لك جاهزا كالّذي عندنا، ومنها أنت تختار ما يطبخ من لحوم وخضروات وتوابل، ثمّ تحملها إليهم فيطبخونها بعد خلطها، وعادة المشروبات عندهم أن تشتري كوبا ثمّ تزيد كيفما تشاء بنفس المبلغ، أي لا يحسبون الزّيادة، كما توجد مطاعم النّباتيين بكثرة، وهذه لا تشعر بينها وبين الطّعام الطّبيعي فارقا كبيرا، فكأنّك تأكل لحوما طبيعيّة وهي نباتيّة، والنّباتيون عندهم كثر، لهذا هي منتشرة، كما يعجبني كما رأينا في الرّحلة الشّيكاغيّة أنّك تضع البخشيش في نفس الفاتورة، بمعنى لك خانة تكتب ما تريد التّصدق به، وهم صادقون في وضعه حسب تعامل القائمين بالخدمة في المطعم، وحسب جودة الطّعام والطّبخ، وحسب مبلغ الطّعام الّذي استهلكته، وعادتهم يجمعونه ثمّ يقسمونه بينهم، ويعتبر دخلا لهم؛ لأنّ رواتبهم ليست كبيرة، كذلك من عادتهم كلّ أحد يدفع فاتورته بنفسه، ففي أحد الجلسات في المطاعم بدعوة منهم، أنت تطلب وتأتيك فاتورتك لتدفعها بنفسك، إلا أنّ الأستاذ بيان كثيرا ما يخدعنا بدفعها، فقد تطبع بعاداتنا، وعادتهم في الحقيقة جميلة خصوصا في اللّقاءات المستمرة، فاطلب ما يحلو لك، وتحمّل كلفتك بنفسك، كما رأيتهم يأخذون ما بقي من الطّعام ولو قليلا، فلا أدري هل يأخذونه إلى البيت أو يتصدقون به.
ثمّ بعد الغداء ذهبنا إلى مدينة أرفينج، وهي قريبة من مطار دالاس، حيث ذهبنا إلى معبد جورد نيكشام سيفا جوارا، أو المعبد الذّهبي، وسبق في الرّحلة الشّيكاغيّة أن زرنا معبد جورد زيلاجس سو سني في شيكاغو، وسجلنا حلقة عن السّيخيّة مع الأستاذ كونت ستج، وتحدّثنا كمقدمة عن السّيخيّة ونشأتها وطقوسها وبعض معالمها يمكن الرّجوع إلى الرّحلة الشّيكاغيّة في ذلك، وهنا سجلنا حلقة تكميليّة لبعض الجوانب الأخرى من السّيخيّة.
في الابتداء استقبلنا الأستاذان هربجن سنج وويد بركاش، وطلب منا نزع الحذاء، ولبس غطاء الرّأس احتراما للمعبد، ولون الغطاء ذهبيّ، وفيه عادة شعارهم وهو سيف أفقيّ، يتداخل عن يمينه ويساره سيفان كبيران، ثمّ دخلنا قاعة الصّلاة، وتشبه قاعة المسلمين، وفي مقدّمتها مكان مرتفع قليلا، وأحيانا كرسي، وهناك يتلون من كتابهم السّيليّ جرو ساحب، ويعبرونه الغورو بعد ذهاب الغورو العاشر، ويستخدمون الموسيقى مع التّلاوة، والمرأة تشاركهم في نفس القاعة، وتدخل بلباس محتشم، وتغطي عموم رأسها إلا ما ظهر كمقدّمة شعرها.
ثمّ ذهبنا إلى قاعة ملاصقة وهي قاعة الطّعام، وكعادة دور العبادة في أمريكا من كنس وكنائس ومساجد ومعابد توجد غرف ملاصقة للأجل الطّعام، فقدّم لنا بعض المشروبات، واكتفينا بالشّاي والماء، ثمّ ذهبنا إلى تسجيل الحلقة التّكميليّة حول الدّيانة السّيخيّة مع الأستاذ هربجن سنج، وقليلا شاركنا الأستاذ ويد بركاش، وطلب مشاركتنا في التّصوير، والحلقة من برنامج حوارات، حلقة (45)، سجلت في الخامسة عصرا بتوقت تكساس، وبثت يوم الاثنين 12 أغسطس على قناة أنس اليوتيوبيّة.
في البداية تحدّث أنّ السّيخيّة ديانة جديدة مستقلة، وليست خليطا من الهندوسيّة والإسلام، والغورو ناناك [ت 1539م] عندما ذهب إلى النّهر ثلاثة أيام، وظنّ النّاس أنّه ميت؛ هناك جاءه وحي يأمره الله تعالى بتبليغ دعوته، وهداية النّاس، وبهذا كانت الدّيانة السّيخيّة.
ولمّا مات الغورو ناناك انتقلت روحه إلى الغورو الّذي من بعده، وهكذا حتّى الغورو العاشر – أي جوفيند سينج [ت 1708م]-، وبوفاة الغورو العاشر انتقلت الرّوح من الجانب البشري إلى كتابهم المقدّس السّيليّ جرو ساحب، فهو الغورو حاليا، ويحتكمون إلى المبادئ الموجودة فيه.
والعلاقة بين الغورو ناناك وبين تراث وشعر فريد الدّين مسعود [ت 1265م]، المشهور ببابا فريد ، فيوجد توافق بين الغورو وتراث بابا فريد في العشق الإلهي، ولكن الفارق أنّ الغورو نبي يوحى إليه، وفريد عارف من العرفاء، ومع هذا نقل الغورو العديد من أشعار وآثار بابا فريد مع اسمه في كتابهم المقدّس، وكذلك بالنّسبة لبابا كبير [ت 1643م] ، وبعضها بالفارسية.
ووجود تعاليم من الهندوسيّة أو الإسلام في السّيخيّة هذا طبيعيّ؛ لأنّها تحترم الدّيانتين، وتحترم أيضا جميع الأديان الأخرى كاليهوديّة والمسيحيّة والبهائيّة وغيرها، ويرون أنّ هذه الأديان جميعا فيها من التّعاليم والجماليات، فنستفيد منها، ونعيش في سلام، وأن يحترم كلّ دين الدّين الآخر.
بيد أنّه لا يملك أيّ أحد من الأديان الحقيقة المطلقة، وإنّما نبحث عنها، وقد توجد في الدّيانات الأخرى، ولهذا ندخل الكنس والكنائس والمساجد والصّوامع والمعابد لنبحث عن هذه الحقائق، ومن جماليات الأديان، ونستفيد منها، وكلّ ما نرجوه أن يكون كلّ أصحاب دين أيّا كانوا جيدين من خلال دينهم، ولجميع أصحاب الأديان حق الحياة وحق المساواة، وحق المساواة يشمل الذّكر والأنثى بلا تفريق، بما في ذلك دخول مكان العبادة.
والسّيخيّة لا يوجد فيها تبليغ أو تبشير، وانتشرت هذه الدّيانة بسبب مبدأ المساواة الّذي أتى به الغورو ناناك، فقد كانت الطّبقيّة منتشرة خصوصا عند الهندوس، بجانب الصّراع الكبير بين الهندوس والمسلمين، فدعا الغورو إلى المساواة والسّلام بين الطّبقات والأجناس والأديان والأفراد، فلقت دعوته قبولا عند الكثير، ومع ذلك وجد العديد من السّلاطين ومن النّاس من حاربها أيضا، فالغورو الخامس – أي الغورو أرجان [ت 1606م] – سجن وأعدمه سلاطين المغول المسلمون في الهند.
ومن المساواة مثلا أنّه لا يوجد في السّيخيّة رهبنة، فالكلّ سواسية ذكورا وإناثا، وإنّما قد يتفوق أشخاص في العلم والرّقي الرّوحي عن طريق التّغني بالكتاب المقدّس، وكثرة الذّكر به، ويسمونهم بالجاني، لكنّهم ليسو أعلى من البشر.
ولا نرى ما يسمى بالدّيانة الخاتمة، فديانات موجودة قبل السّيخيّة، وديانات جاءت بعدها، كما لا نؤمن بالمهدي أو المخلص، ولا نعتقد بعودة أحد كالمسيح، فالرّوح ترجع إلى الخالق لتترقى وتعود إلى طبيعتها الأولى، ولا تعود إلى الجسد مرة أخرى، والجسد لا يرجع إلى صورة أخرى، كان على شكل المسيح أو المهدي أو غيرهم.
وتوجد مذاهب في السّيخيّة ولكن ليست كبيرة كما في الإسلام والمسيحيّة مثلا، وأهم خلاف بينهم في قضيّة انتقال الرّوح بعد الغورو العاشر، فهناك مذاهب استمرت في الجانب البشري في انتقال هذه الرّوح، بيد أنّها قليلة لا تكاد تذكر، والمشهور كما أسلفنا أنّ روح الغورو في الكتاب المقدّس.
ولمّا سألته عمّا جاء في كتابهم المقدّس، [السّلم: 8] “بفضل استماع ذكر الله يمكن للإنسان العادي أن يبلغ منزلة من منازل الألوهيّة مثلما كان الإله شيفا، هالك الكائنات، وإلى منزلة الإله برهما خالق أو مكون الكائنات، وإلى الإله أندرا إله الأمطار” فهل هناك تعدد للآلهة في السّيخيّة، فأجاب: نحن نعتقد أنّ الله واحد، وهو القوي القدير، ويملك جميع الصّفات، وما ذكر هي صفات لله، وليست أجزاء منه، فنحن لا نؤمن لا بالجنّة ولا بالنّار ، ولا بالملائكة.
ويقول: والله تعالى لا يرى، ولا يمكن رؤيته على أي حال، ولا يجسد في صورة، وإنّما يرون قدرته وعظمته ومظاهر تجليه من خلال الوجود، فهو الأب والأم ليس مذكرا ولا مؤنثا، لكن بمعنى الخالق المسيطر الرّحيم في هذا الكون.
ونحن نؤمن بوحدة الوجود، فالإنسان جزء من الله من خلال روحه، والله متجلي في هذا الإنسان وفي الطّبيعة.
وكلّ ما يؤثر على العقل والصّحة كالمخدرات والسّجائر والخمور فهو محرم في ديننا، منصوص على ذلك في كتابنا المقدّس، والامتناع عن اللّحوم ليس بسبب التّحريم، ولكنّها رغبة شخصيّة لأجل الرّقي الرّوحي، ولا يجوز القتل أو الإعدام في السّيخيّة، فللجميع حق الحياة، والمخطئ يعطى فرصة أخرى، ويستثنى حالة الحرب، فهنا ندافع عن أوطاننا وحقنا في الوجود ولو أدّى إلى القتل، وأمّا الموسيقى فهي شيء جميل، ومباحة في شريعتنا، ونستخدمها في طقوسنا، فهي من الجمال الّذي أودعه الله في الوجود، ولا يوجد عندنا إجبار الولد أو البنت على الزّواج، وإنّما يقتصر عند التّوجيه، وينبغي على الأبناء طاعة الوالدين، ولا يوجد عندنا التّعميد بمعنى الجميع ينزل إلى الماء، وإنّما خمسة أشخاص من المعمدين، يأتون بالماء من آمْريستار في البنجاب، ويخلطونه بالسّكر، ومن يذهب هناك يرشونه عليهم.
وفي ختام اللّقاء كانت رسالته الأخيرة: علينا أن نتعلّم من الآخر ونحترمه ونزور مكان عبادته، ولا أحد أفضل من الثّاني، كما لا يملك أحد الحقيقة المطلقة، وأنا ضدّ فكرة التّبليغ والتّبشير بين الأديان؛ لأنّها تؤدي إلى الصّراع والاحتراب، وعلى كلّ دين أن يشتغل مع نفسه، ويتسالم مع الآخر.
وفي الأخير ودعنا الأستاذين، وعبّروا عن سعادتهم بالزّيارة، ثمّ أخذنا جولة سريعة في دالاس لنستعد ليوم جديد، لأداء صلاة عيد الأضخى، وتسجيل حلقة حول الدّيانة اليهوديّة كما سنرى في الحلقة القادمة.