د. معمر بن علي التوبي
أكاديمي وباحث عُماني
هناك من يرى أن الأخلاق منفصلة عن الدين لا علاقة لها بالدين والتدين وهذا رأي يتبناه الكثير من الفلاسفة والماديين -كما سنرى لاحقًا- إلا أن الواقع عكس ذلك من خلال عميق الملاحظة والمتابعة لأحوال النظام الديني ومنهجه- كلما كان قليل الشوائب وصافي المنبع فهو الدين الأكثر تأثيرًا- فالدين أحد أهم عناصر نشأة الأخلاق بجانب الوعي الفطري (الروح)، وهو أهم عامل في تطور الأخلاق. الإنسان بطبيعته وبنزعته وميوله إلى الخير وإلى الشر وفي كليهما يجد أن رغباته ونزواته الداخلية قد تسد وأهدافه تتحقق، وهنا حقيقة فطرية لابد من الإقرار بوجودها وهو أن الخير والشر شيئان لا يتحقق وجود الإنسان بدونهما وهذا ما يضعنا أمام تفكر في قوانين فطرية مثل البقاء للأصلح (الانتخاب الطبيعي) وهو ما يؤسس للصراع القائم بين الخير والشر ومنه الصراع الداخلي للإنسان نفسه وهو منقاد بفطرته ونزواته إلى الخير والشر، وهذا الصراع الداخلي ربما يكون نتيجة البذرة الفطرية للنظام الأخلاقي (مبدأ العقلانية عند الإنسان عبر القدرة على التمييز بين الخير والشر وفق المعيار الأخلاقي العقلاني)، وقد نعرفه بتأنيب الضمير خصوصًا في حال حضور الدين (الذي يؤسس ويلقن المبادئ الأخلاقية وفقا لمبدأ الطاعة والعقاب والثواب).
من خلال فهمنا لفلسفة سبنوزا في علاقة الأخلاق بالدين -على الرغم من نظرة سبنوزا السلبية والنقدية للأديان- فهو يرى أن الدين بمنهجه في الثواب والعقاب بعد الموت أجبر البعض -من المتدينين- على التوجه إلى الأخلاق الفاضلة طمعًا في نيل الثواب1. وهذا إقرار من فيلسوف كبير كسبينوزا على تأثير الدين والتدين بما يحمله من أسس أخلاقية في صيانة النظام الأخلاقي للإنسان، وهذا ما نرغب في التأكيد عليه من حيث البنية الدينية التي تتصل بصون المنظومة الأخلاقية عند الإنسان. في حين كان التنويريون في القرن الثامن عشر كأمثال فولتير وديدرو وبارون هولباخ يذهبون إلى رأي فصل الأخلاق عن الدين بسبب ما عانته أوروبا فترة العصور الوسطى من تسلط الكنيسة وقهرها2. ووجدوا أن فكرة ارتباط الأخلاق بالدين هي نابعة من مبدأ الثواب والعقاب في الآخرة3. وهذا ما يراه الفيلسوف إيمونيل كانط (Immanuel Kant) أيضا من حيث أن الأخلاق المثالية والحقيقية لا يمكن أن ترتبط إلا بذاتها وليس لمبدأ الثواب والعقاب. نجد أيضا أن أحد الفلاسفة العرب المعاصرين وهو طه عبدالرحمن قد قاوم هذه النزعة العلمانية الداعية لفصل الأخلاق عن الدين. هنا يتضح حجم هذا التدافع الفكري والذي يعبر عن صورة واضحة في مفهوم التطور الفكري وتطوره الناشئ بوجود أسباب وأفكار سابقة تدفع بالفكرة إما لنفس الاتجاه أو في الاتجاه المضاد وهو بطبيعته يعبر عن مبدأ التطور في عالم الأفكار.
نجد أن الصراع بين الكنيسة والفلسفة وصراع الكنيسة مع العلم من جانب آخر ناجم عن التناقضات التي وُجِدت في الإنجيل والتي لم تستطع أن تتقارب مع الأفكار الفلسفية بما فيها الأخلاقية ومع العلوم الطبيعية؛ ولهذا كان العداء قائمًا بين المؤسسة الدينية المتمثلة في الكنيسة وبين المؤسسة المعرفية المتمثلة في الفلسفة والعلم؛ وهذا ما يفسر الصراع والقطيعة المستمرة -خصوصًا في الغرب- بين الدين والعلم، وبين الدين والأخلاق بشكل جزئي أيضا كما في موضوعنا. إلا أنه من المستغرب أن بعض مفكري العرب حاولوا تقليد التجربة النهضوية الغربية وتطبيقها في العالم العربي على وجه الخصوص وفي العالم الإسلامي على وجه العموم بما فيها تجربة فصل الدين عن كل نواحي العلوم والفلسفة كحال المفكر العربي (المسيحي الأصل) سلامة موسى الذي حاول أن يجعل من العالم العربي نسخة أوروبية في جميع الجوانب ونسي الفروقات -الغالبة- فالإسلام بأغلبيته في العالم العربي لا يشكل خطرًا على المبادئ العلمية والأخلاقية كما فعلت النصرانية التي تتمركز في أوروبا؛ ولهذا نجد التجربة الغربية مع الحداثة والنهضة كانت حتمية نتيجة لصراع عميق وشقاق بين الدين (النصراني) والعلم. قبل أن نأتي إلى فكرة الأخلاق عند النصرانية ومصادرها فإننا نرى أن الحال تقريبا لا يختلف في الديانة اليهودية -والتي جاءت بعدها النصرانية لتقتبس الكثير من نظامها الأخلاقي كما سنرى- وبرغم ما تحتويه من مبادئ أخلاقية ممثلة بالوصايا العشر وكذلك التوراة بما تحويه أيضا من قواعد وفضائل أخلاقية إلا أن هذه الأخلاق من حيث تطبيقها فهي محصورة داخل المجتمع اليهودي، وهذا هو منهج نظري وعملي في الديانة اليهودية التي تمنع الزنى والربا مع اليهودي ولكن لا تمنعه لغير اليهودي4.
يلاحظ أن الديانة النصرانية اعتمدت على الكتاب المقدس (Bible) -فيما يخص قضية الأخلاق- الذي تكون من خلال محتويات المصدر اليهودي المعروف بالعهد القديم (الكتاب المقدس عند اليهود) والمصدر النصراني الذي جاء تحديثًا للعهد القديم والذي يُعرف بالعهد الجديد (مجموعة من الأسفار والأناجيل عند النصارى)5. مع ذلك فإن العهد الجديد وما يحويه من أسفار فإنه يعتبر المصدر الدستور الرئيس للأخلاق عند النصارى6. برغم ما حملته المصادر النصرانية من تطور وتحسين في النظام الأخلاقي مقارنة باليهودية كما هو الحال في العهد القديم، فإن العهد الجديد عند النصرانية قدم نموذجًا أفضل من حيث اتساع رقعة التعامل الأخلاقي وخصوصًا في مبادئ التسامح والعفو ليشمل الإنسان ككل دون النظر إلى دينه كما تفعل اليهودية، إلا أن النصرانية فشلت في تأسيس نظام أخلاقي اجتماعي، وكان تركيزها على الجانب الفردي والروحي في الأخلاق7؛ مما جعلها تفشل داخل المجتمع الصاعد نحو التغيير الفكري والحضاري بشكل عام، إلا أن لمسات فكرة التطور داخل النظام الديني من خلال ما اكتسبته واستلهمته الديانة النصرانية من المصادر اليهودية فإنها أحدثت شيئًا من التطور الأخلاقي.
أما النظام الأخلاقي في الإسلام فقد جاء ليكمل المنهج الأخلاقي الإنساني ويحدد مساراته وقوانينه، ومن أجمل ما يمكن أن نقتبسه فيما يخص المبدأ الأخلاقي في الإسلام -الذي جاء ناسخًا للأديان التوحيدية السابقة طابعًا اكتمال مسيرة التطور في الأخلاق- هو ما قاله المفكر مالك بن نبي في كتابه الظاهرة القرآنية: “إن الأخلاق اللادينية -بقدر ما لهذا التعبير من معنى- تقيم أعمال الإنسان على المنافع الشخصية العاجلة، التي صارت أساس المجتمع المدني؛ على أن الأخلاق الدينية (التوحيدية) تحترم أيضا المنفعة الشخصية، ولكنها تمتاز برعاية منافع الآخرين، وهي بذلك تدفع الفرد إلى أن ينشد دائما ثواب الله قبل أن يهدف إلى فائدته. من أجل هذا الثواب صاغت التوراة الميثاق الخلقي الأول للإنسانية في وصاياها العشر، وساق الإنجيل توجيهاته في عظة المسيح على الجبل، ولكن الأمر في الكتابين كليهما أمر مبدأ أخلاقي سلبي، فهو يأمر الناس بالكف عن فعل الشر في حالة، وبعدم مقاومة الشر في أخرى. أما القرآن فسيأتي بمبدأ إيجابي أساسي، كيما يكمل منهج الأخلاق التوحيدية، ذلك المبدأ هو (لزوم مقاومة الشر) فهو يخاطب معتنقيه بقوله: ” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ”8. ومن جهة أخرى يقر القرآن فكرة الجزاء، أساس الأخلاق التوحيدية. ويقول الأستاذ (أندرية لودن): ” إن القيمة الدينية للفرد لم تظهر في الديانة اليهودية إلا على عهد (حزقيال النبي Exachiel)، فحتى ذلك العهد كان الواجب ونتائجه الخلقية يقعان على عاتق الأمة، التي تتوقع جزاءها في ذلك النصر الموقوت، (يوم ينصر الإله قومه) وقد كان الإنجيل على العكس من ذلك، فقد قصر الجزاء كله على (يوم القيامة)، فقد أصبحت الأخلاق من مسائل الآخرة، وأضحت برمتها من الهموم الشخصية”. حتى إذا جاء القرآن وجدناه يقيم بناءه الخلقي على أساس القيمة الخلقية للفرد، وعلى العاقبة الدنيوية للجماعة، فأما الفرد فإن ثوابه مستحق يوم الحساب، ومن أجل هذا يقرر القرآن صراحة القيمة الدينية للفرد في قوله تعالى: ” ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا”9…”10
من السهل حينها أن نفهم الإضافة الدينية مع مكون الإنسانية هي مرحلة التأسيس المكتمل للأخلاق (المبادئ الإنسانية العليا) التي من خلالها تتشكل الفلسفة والمدنية والحضارة. الدين يعمل مراقبًا ومتابعًا ومدربًا للنفس الإنسانية الساعية إلى بلوغ المستوى الإنساني الأعلى عبر المنهج الأخلاقي المتطور والواضح مما يرسخ من القوانين الإنسانية الضامنة لبقاء المؤسسة الإنسانية وضمان استمراريتها وتطورها. ربما من السهل أن يجد البعض أن نشأة الأخلاق وتطورها لا تستدعي ضرورة حضور الدين، وأن المنهج العلمي والعقلاني كفيل بأن يصنع هذا البقاء والكيان الأخلاقي المناسب للمبادئ (والرغبات) الإنسانية، وهنا يكون الجواب أنه يمكن لأي مراقب للأنظمة اللادينية أن يرى الغموض في كثير من المفاهيم الأخلاقية وقد يكون مفهوم الحرية الأبرز، مع ذلك لا يمكن أن ندّعي أن المجتمع الديني الفاضل في حضور وتطبيق مكتمل، بل على النقيض نجد أن الكثير من الأفراد والمجتمعات التي تدعي ملكيتها وتطبيقها للمنهج الديني فإنها تسئ إلى الدين عبر نقضها لأهم المبادئ الأخلاقية والإنسانية مثل عدم تطبيق العدالة والحرية. هنا نحن لا نحمل المنهج الديني المسوؤلية ولكن نحملها من يدعي أنه تابع ومطبق للدين.
المراجع:
1ينظر: سبينوزا، باروخ. علم الأخلاق. المنظمة العربية للترجمة. 2009. ص.349
2ينظر: دوز، كريمة. الأخلاق: بين الأديان السماوية والفلسفة الغربية. الطبعة الثانية. ص.48-49.
3ينظر: المصدر السابق. ص.53.
4ينظر: المصدر السابق. ص. 120- 121.
5ينظر: المصدر السابق. ص.122.
6ينظر: المصدر السابق. ص.128.
7ينظر: المصدر السابق. ص.146.
8سورة آل عمران. آية110:.
9سورة المدثر. آية: 11.
10مالك بن نبي. الظاهرة القرآنية. دار الفكر، دمشق. الطبعة العاشرة. ص.207-208.
*حررته “بتصرف” من كتابي “هكذا نتطور (فلسفة التطور في عالم الإنسان والأفكار والأشياء)”، الطبعة الأولى (2020) عن مؤسسة اللبان للنشر.