بدر بن سالم العبري
سبق أن كتبنا عن الرّحلة إلى شيكاغو، والّتي كانت من 13 – 22 أغسطس 2018م، وتعتبر أول رحلة لي خارج القطر العربي، وشيء من العالم الإسلامي، وخروجي من القطر العماني إلى القطر الخليجي والعربي والعالم أجمع يفتح للإنسان عالما أوسع، ويوسّع مداركه، ويفتح قلبه للآخر، فيتلاشى التّوجس من الآخر شيئا فشيئا، كما أنّه تتحقق به رسالة التّعارف المبنية على التّعرّف على الآخر والاعتراف به.
رحلة شيكاغو كما رأينا سابقا كانت لحضور مؤتمر الأمريكيين السّابع في شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكيّة، ومنها كانت دعوات إلى كندا والمكسيك ووولاية نيو مكسيكو الّتي كان يسكنها الهنود الحمر، لتوثيق ديانتهم وعاداتهم، ومن هذه الدّعوات كانت دعوة من الأستاذ بيان عطاء الله النّوري، لزيارته في دالاس بولاية تكساس الأمريكيّة، فلبيت طلبه على أن يكون للمشاركة أيضا في مؤتمر الأمريكيين الثّامن، وهنا حدث تعاون مع جمعيّة الأديان في تكساس، لتسجيل حلقات مع أديان ومذاهب متعددة كما سنرى.
وولاية تكساس كما في الموسوعة العالمية ويكبيديا تعتبر “ثاني أكبر ولاية في الولايات المتحدة من حيث المساحة والسّكان”، “تقع ….. في وسط جنوبي البلاد”، وهي قريبة من المكسيك، وجوّها صحراوي، وهي منطقة تجاريّة، لهذا هي خليط من أجناس مختلفة، من أصول الأمريكيين – أي الهندود الحمر -، ومن الأمريكيين البيض والسّود، ومن المكسيكيين والعرب والهنود والفرس والصّينيين والبورميين وغيرهم كثير، ويتحدّثون باللّغتين الإنجليزيّة والأسبانيّة، مع اللّغات العرقيّة الأخرى.
وتكساس ولاية جمهوريّة، إلا أنّ فيها ديمقراطيون بنسبة كبيرة أيضا، خصوصا العرقيات غير الأمريكيّة تميل إلى الدّيمقراطيين، ويسود فيهم المذهب المسيحي البروتستانتي الإنجليكاني، وهم متعصبون دينيّا، إلا أنّها أيضا مليئة بالأديان والمذاهب الأخرى كالهندوس والبوذيين واليهود والمسلمين والإسماعيليين البهرة والسّيخ والأحمديين والبهائيين وغيرهم، وفيها طوائف من المسيحيين أغلبهم بروتستانت كالمشيخيين والمعمدانيين واللّوثريين، كما فيها من الأرثذوكس والكاثوليك والسّبتيين وشهود يهوه والمورمون وغيرهم، ويوجد اتّجاهات أخرى كالماسونيّة وشهود يهوه والمثليين والمتحولين جنسيا، وهذه غالبها تحت مظلّة الدّين؛ لأنّ الاتّجاهات الإلحاديّة ضعيفة أو المجتمع لا يتقبلهم، ويتعرضون للإقصاء ليس من قبل الدّولة، ولكن من قبل المجتمع مثلا في وظائفهم، وقد حظرت اجتماعا لهم اذكره في حينه، كما يوجد فيها جماعة عبدة الشّيطان وهم قلة غير متقبلة، وعلى العموم جميع الأديان تمارس طقوسها بكلّ حرية، والدّولة في جملتها تدعم الجميع.
كما يوجد في تكساس العديد من المشردين، ولهذا هناك تكافل اجتماعي، ومؤسسات أهليّة في ذلك، كما يوجد ملتقيات للأديان تركز في اجتماعها على مساعدة المشردين والفقراء من خلال دور العبادة.
عموما خرجت من النّزل في الموالح الجنوبيّة السّاعة العاشرة ليلا مساء الجمعة، التّاسع من أغسطس 2019م، مع الأخ والجار العزيز مؤيد بن محمّد السّيابي، وفي مطار مسقط كانت الأمور سهلة جدّا، وموعد إقلاع الطّائرة الواحدة وخمس وخمسون دقيقة، وقبل الدّخول سألني أمن القاعة لماذا لم تأخذ تأشيرة إلى أمريكا لعشر سنوات، وكان حينها أعلن أنّه يسمح للسّياح ورجال الأعمال العمانيين أن تكون تأشيرتهم لعشر سنوات، وكان هذا في يونيو 2019م، فقلت له أنا أخذت التّأشيرة العام الماضي أي 2018م قبل القرار، وإلا كان القرار في صالحي، كما أنّه سألني: ما الغاية من الذّهاب؟ فأخبرته الغاية حضور مؤتمر في شيكاغو، وقبلها زيارة أحد الأصدقاء في تكساس.
وعموما صعدنا الطّائرة في الوقت المحدد، وكانت على متن الطّيران العماني، إلا أنّها تأخرت عن الإقلاع لفترة طويلة أكثر من نصف ساعة، وهنا رأيت أسرة أتصوّرها مصريّة أو شاميّة من أب وأم مع أطفالهم مهرولين بسرعة إلى مقاعدهم، فلا أدري هل تأخر الإقلاع لسببهم أو لأسباب أخرى، ثمّ كانت مشكلة لا توجد مقاعدة قريبة لهذه العائلة، فحدث نوع اللّغط لإعادة ترتيب الأشخاص ممّن لا عوائل لهم من قبل القائمين بالخدمة على متن الطّائرة، فجعلت الأم مع أولادها في الأمام، والأب في الخلف، ومع هذا كان صراخ أطفالهم وبكاؤهم أزعجنا طيلة الرّحلة إلى فرانكفورت.
وصلنا إلى مطار فرانكفورت في ألمانيا قرب السّاعة الثّامنة صباحا، إلا أنّ الطّائرة ظلّت بنا فترة في ساحة الهبوط ننتظر الأذن بالنّزول، فتأخرنا أكثر من نصف ساعة أيضا، وموعد إقلاعنا على الطّيران الأمريكي في الثّامنة وخمس وثلاثين دقيقة، وهنا كلّمت الطّاقم في الطّائرة، فقالوا ينتظرون أوامر النّزول!!!
فنزلت بعدها وأنا أسرع في الهرولة، ومطار فرانكفورت كبير، وقاعتنا على TERMINAL 1، وهنا تذكرت الأستاذة والقاصّة زوينة سالم، فكنا نتسامر بعد ورشة عمل أدوات النّاقد الأدبي مع الدّكتور المصري محمّد الشّحات بالجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء في مسقط، فأخرجت لها التّذكرة، فعاتبتني في اختيار الطّيران الأمريكي وسوء خدماته، وضعف مدّة التّرانزيت، فقلت لها: هذا الأرخص، ومدّ رجولك على قد لحافك، فقالت: لن تدرك الطّائرة في مطار فرانكفورت، وقلت لها: أكيد المكتب السّياحي يعرف أنّ الوقت يكفي وإلا لما أخرج التّذكرة إلا متناسبا مع الوضع، هنا أدركت حقيقة كلام الأستاذة زوينة، وفعلا وصلت القاعة بعد جهد جهيد، ولمّا وصلت قالوا لي: الطّائرة أقلعت!!!
وهنا شعرت بخيبة كبيرة، فماذا أفعل، ولغتي الإنجليزيّة ليست بذاك لكي أشرح لهم، فأخبروني أن أذهب لأحد القاعات لأخبرهم، ومن حسن الطّالع وجدت شابّا هناك، فظننته في البداية أفريقيّا، إلا أنني رأيت جوازه العماني، فسلّمت عليه، فرحب بي، وإذا به طالب عماني يدرس في أمريكا، ورحلته ذات رحلتي، وكان معنا في الطائرة، والأصل كذلك يذهب من الطّيران العماني إلى فرانكفورت، ومنها على الطّيران الأمريكي إلى شيكاغوا ثمّ ولايته الّتي يدرس فيها نسيت اسمها، وأمّا أنا من شيكاغوا إلى دالاس في ولاية تكساس، وكان يجيد الإنجليزيّة بطلاقة، فشعرت بالاطمئنان، وهنا تأخر مسؤول المكتب، ثمّ ذهبنا إلى مكتب آخر بالخارج، فجاءت بعد فترة امرأة، فحجزت لنا تذكرتين على الطّيران الألماني، أمّا هو فيذهب إلى شيكاغوا فولايته، وأمّا أنا مباشرة اذهب إلى دالاس، ووجدت مكتوبا في الورقة الملحقة بالتّذكرة مبلغا ما يقارب مائتين وخمسين ريالا عمانيّا، فخشيت ابتداء أن يطالبونا بالدّفع، وعموما سكت عن الموضوع، ولعلّ الطّيران العماني تحمل ذلك؛ لأنّ خطأ التّأخير كان بسبب منه من مطار مسقط.
وكما قيل “ربّ ضارة نافعة” فهنا ربحت مرتين: الأولى أنني أبدلت بالطّيران الألماني، وجربته في رحلة شيكاغوا السّابقة، وكتبت عنهم فيها، وخدماتهم رائعة جدّا، وكذلك اختصرت الطّريق، فبدلا من النّزول في شيكاغوا، هنا مباشرة من فرانكفورت إلى دالاس بدون ترانزيت والحمد لله.
ذهبنا بسرعة إلى قاعة Z69 حيث أقلعت الطّائرة لأنّه لا يوجد وقت، فأقلعت قرب العاشرة صباحا بتوقيت ألمانيا، ووصلنا مطار دالاس فورت ورث الدّولي السّادسة مساء بتوقيت تكساس، وهو مطار كبير، جاء في الموسوعة العالميّة ويكبيديا: “مطار دولي يقع بين مدينتي دالاس وفورت وورث، ويعتبر الأكثر نشاطا في ولاية تكساس الأمريكيّة، ويحتل المرتبة الثّالثة عالميّا في مجال حركة الطّائرات”، “السّابعة عالميّا من ناحية عدد الرّكاب المسافرين”، “وافتتح رسميّا في عام 1973م كمطار إقليمي”.
وفي المطار كانت الأمور بسرعة، وبإمكانك تنهي أمورك بذاتك، وهنا وجدت عراقيين يقومون بالأمر، ويعملون في المطار، وفي نهاية المطاف سألني الموظف الأمريكي عن سبب الحضور: فأخبرته أتيت لحضور مؤتمر، وأظهرت له ورقة المؤتمر، وكنت متعبا كثيرا، ولمّا سألني: How long will you stay in America?، قلت له: Twenty-nine years، فتعجبَ، ثمّ انتبهت بسرعة قائلا له: Sorry twenty-nine days، فابتسم بقوّة وسلمني الجواز، وفي الخارج وجدت الأستاذ بيان ينتظرني.
هنا رأيت دالاس، وهي كما في الموسوعة العالميّة ويكبيديا “ثالث أكبر مدن ولاية تكساس، وتاسع أكبر مدن البلاد”، فيها أكثر من مليون نسمة، وعاصمة تكساس اقتصاديّا وثقافيّا، متعددة الأجناس واللّغات والأديان والمذاهب، “كانت تابعة للمستعمرات الأسبانيّة”، “استقلت [عام] 1821م وكانت تابعة للمكسيك”، “مع دخول القرن العشرين، واكتشاف النّفط في الولاية؛ تحوّلت المدينة إلى مركز للبنوك وشركات التّأمين العملاقة، واستمرت على هذا الحال حتى يومنا هذا”.
ذهبنا إلى بيت بيان في ويكوري ميدو، وهي مشهورة بمنطقة اللّاجئين وتبعد عن مطار دالاس حوالي عشرين دقيقة، وهي منطقة فقيرة، ويقطن منطقة اللّاجئين من الأفارقة والآسيويين والبورميين والعرب، وقلّة من الفرس والمكسيكيين والأمريكيين وغيرهم، وفي هذه المنطقة شارع يوجد فيه مول نورث بارك، وهو من أكبر المجمعات في دالاس، وهي منطقة في فيكروا ميتوا يسكنها الأغنياء.
لمّا وصلت إلى البيت وجدت الأستاذ بيان أعدّ لي غرفة، ورأيت في البيت في الأعلى فتحة لدخول الضّوء، حيث يستغون في النّهار عن المصابيح الكهربائيّة، فتضيء الفتحة منطقة الجلوس واستقبال الضّيوف والمطبخ لأنّه مفتوح على الصّالة كعادة بيوتهم، وتذكرت بهذه الفتحة بيوتنا القديمة في عمان، ويسمونها الشّرفة، والجو في دالاس معتدل، ويعتبر حارا، إلا أنّ الأمطار تنزل بين فترات متقاربة فلا تشعر بالحرارة، كما أنّها لا تستمر طويلا، فكأنّها تنزل لتجعل الجوّ معتدلا، وتضيف على المكان جمالا وبهاء.
على العموم صلّيت الظّهر والعصر، وكنت متعبا كثيرا، وعندنا موعد على الثّامنة مساء في بيت والد بيان، إلا أنّ النّوم أخذني لشدة التّعب، فاستيقظت على سرعة السّاعة العاشرة، فعاتبته عتاب محبّ لعدم إيقاظي، بيد أنّه اعتذر لي لما رآه من رهق السّفر، فقمت بسرعة لصلاتي المغرب والعشاء، ثمّ ذهبنا إلى منطقة بلينو، وهي تبعد حوالي عشرين دقيقة عن منطقة اللّاجئين.
وبلينو متنوعة السّكان من الهنود والعرب والمكسيكيين والفرس والصّينيين، وفيها أغلب الأديان والمذاهب والأجناس، وأغلب الدّيمقراطيين يكون ترشيحهم منها، وهنا تعرفت على والد ووالدة بيان، واعتذرت على التّأخير، ووالد بيان عطاء الله يحيى نوري مثقف جدّا، وقارئ مطلع، وله اطّلاع في الأديان الإبراهيميّة، بجانب ديانته البهائيّة، وهو من أصل إيراني، ويعشق الخليج وعمان، ويعشق حياة الشّرق أكثر من الغرب، وقد كان يعمل في الرّياض عاصمة السّعوديّة، وهناك ولد له ابنه بيان، ثمّ ذهب إلى تركيا لتسعة شهور، وبعدها إلى كندا مدّة سنتين، ثمّ عمل في محل النّظارات في مدينة صور العمانيّة لمدّة خمس عشرة سنة، وبعدها إلى دالاس، وهو يعمل الآن في المخبز في شركة ول مارت في دالاس، وأمّا أمّه سيمين موهبتي، وهي من أصل إيراني، قليلة الكلام، كثيرة الابتسامة، أغمرتنا بحنانها وجميل طبخها، فطبخها شرقي وكأنّك في إيران أو عمان، وهنا توثقت العلاقة بيننا، وكانا كثيرا الاتّصال بنا، وكثرت اللّقاءات لاحقا.
على العموم تناولنا العشاء وما بعده من الحلويات والشّاي، وأخذنا حديثا طويلا حول جوانب متعددة وأنا أدافع النّوم، لنرجع بعدها إلى النّزل لنستعد للذّهاب إلى معبد جورد نيكشام السّيخي كما سنرى في الحلقة القادمة.