بدر بن سالم العبري
بعد زيارة قلعة البحرين كما رأينا في الحلقة السّابقة، رجعنا إلى النّزل وأخذت شيئا من الرّاحة؛ لأنّه كان لدي موعد مع جمعيّة التّجديد البحرينيّة الثّقافيّة الاجتماعيّة في السّاعة الثّالثة بعد الظّهر، وجمعيّة التّجديد في البحرين من أشهر الجمعيات التّنويريّة والعميقة بحثيّا في الخليج العربي، ولها حضور جيد كتابيّا وإعلاميّا، ولها سلسلة “عندما نطق السّراة”، وشدّني كتابهم اختطاف جغرافيا الأنبياء، فحمّلته أكترونيّا حينها، وقرأته في أقل من يومين؛ لأنّه صيغ بطريقة سلسة وواضحة مع بعض الصّور، ثمّ تابعت لهم بعض المقاطع الوثائقيّة اليوتيوبيّة القصيرة، ورأيت فكرهم يقترب من فكر كمال الصّليبي [ت 2011م] وفاضل الرّبيعي [معاصر] مثلا، وإن كانت لهم استقلاليّة، كما لهم اهتمام بتأصيل محوريّة القرآن والانطلاق منه.
عموما أخبرتني الدّكتورة ميناء كاظمي رئيسة قسم العلاقات العامّة بالجمعيّة أنّ جمعيّة التّجديد تأسّست في الثّاني من فبراير لعام 2002م، وهي مؤسسة ثقافيّة إسلاميّة عربيّة، إنسانيّة التّوجه، شعارها “نحو منهاج إصلاحي جديد”، وهدفها تمكين الأمّة نحو إثراء العقل لتأخذ مكانها في المجتمع الإنساني، وتقوم على الإنصاف، والثّبات على المبدأ، والجمع بين العلم والعمل، وحرّية الرّأي، وتقبل الاختلاف.
وكنت في نهاية عام 2015م شاركت في مؤتمر التّطرف ومدى تأثيره على المجتمع العربي في الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء بورقة عمل حول التّطرف الفكري ومدى تأثيره على المجتمع العربي، وفي هذا المؤتمر تعرّفت على الدّكتور رضا رجب من البحرين، وقد قدّم ورقة أيضا بعنوان تفكيك الإرهاب، وهو من جمعيّة التّجديد، وكان حديث طويل بيننا، لكنني للأسف لم أحظ برؤيته ثانية في البحرين.
وفي بداية عام 2018م تعرّفت أيضا على الأستاذ عيسى الشّارقي في مسقط، والّذي شارك في مؤتمر الفكر ودوره في بناء الوعي بمنطقة الخليج العربي، حيث قدّم ورقة بعنوان: التّنوع المذهبي ودوره في دعم مسيرة الفكر في الخليج العربي.
وازدادت صلتي بجمعيّة التّجديد، وكان بيننا تعاون مع قناة أنس خصوصا في جلسات كورونا 2020م/ 2021م على ZOOM.
على العموم ذهبت مع الأستاذ فريد عبد الوهاب أحمد إلى منطقة السّلمانيّة في المنامة، وفيها موقع جمعيّة التّجديد، في مبنى متواضع، في مقدّمته قاعة تحوي وسائل حائط تلخص العديد من المعارف، ومنها مثلا ما يتعلّق بالسّيرة النّبويّة والتّاريخ.
وقد رحب بنا في الابتداء الأستاذان عبد الهادي عباس وفاضل حسن، وهما شابان في قمّة التّواضع والخلق، مع العمق المعرفي، ثم أتى الأستاذ الجليل عيسى الشّارقي، وكنت في الابتداء وضعت حوالي عشرة أسئلة، وكان لي أمل أن يكون بيننا حلقة يوتيوبيّة، ولكن ارتأى الأخوة خلاف ذلك؛ لأنّ العديد من الأجوبة موجودة في كتب ومنشورات الجمعيّة، وهي متاحة للجميع، ففضلوا أن أكتب لهم الأسئلة ويكون الجواب كتابيّا، إلا أنّ الزّمن انقضى ولم تتح الفرصة لذلك، بيد أنّ التّواصل مستمر بيننا حتى ساعة كتابة الرّحلة.
وعموما تناقشنا في قضايا عديدة منها مفهوم التّجديد، وما علاقته بالحركة الإصلاحيّة التّي بدأت مع بدايات القرن العشرين، وخصوصا مع جمال الدّين الأفغاني [ت 1897م] والإمام محمّد عبده [ت 1905م]، ومن ثم الحركة التّجديديّة الّتي حاولت الملائمة بين الشّرق والغرب، ردّا على الحركتين السّلفيّة التّراثيّة الرّافضة للحداثة الغربيّة، والحركة العِلمانيّة أو العلمويّة الرّافضة للتّراث ولكلّ ما هو قديم.
ثمّ كيف نجمع بين التّجديد والحداثة، وماذا عن القراءات القرآنيّة والتّراثيّة المعاصرة كما عند أبي القاسم حاج حمد [ت 2004م]، وأركون [ت 2010م]، ومحمّد عابد الجابريّ [ت 2010م] وطه عبد الرّحمن [معاصر] وغيرهم.
وهل مشروع سلسلة عندما نطق السّراة مستقل بمنهجيّته، أم تأثر مثلا بمنهجيّة كمال الصّليبي وفاضل الرّبيعي وغيرهم، مع التّطرق لبعض القراءات والجدليات الآنيّة كما عند محمّد شحرور [ت 2019م] وابن قرناس [معاصر]، ولهذا تطرقنا إلى قضيّة التّرادف في القرآن، وقضيّة الخلق الأول، وهل آدم أول البشر، وقضيّة مصر كمكان، وموقع المسجد الأقصى، وجغرافيا الأنبياء، وهل يسوع المسيحيين هو عيسى الإسلام، وطوفان نوح، ونظريّة التّطور، وماهيّة تحريف التّوراة وغيرها كثير.
هذا وجمعيّة التّجديد كما أسلفنا أصدرت أربعة عشر كتابا من سلسلة عندما نطق السّراة، منها مفاتح القرآن والعقل، وطوفان نوح بين الحقيقة والأوهام، واليهود وتوراة الكهنة، وقد طلب مني بعض الأخوة كتبهم، فقالوا سنحضرها لك إلى النّزل اللّيلة، كما أهدوني بعض كتبهم ككتاب الطّائفيّة ردّة إلى الجاهليّة.
وهنا استأذنا للخروج، وأصر الأخوة على التّوديع إلى الخارج، فرجعنا إلى النّزل، فودعت فريدا، وكان الأصل نرجع فجر الخميس إلى عمان، ولكن لازدحام الجدول من جهة، ورغبة مني في كشف المزيد ممّا تخبيه هذه الأرض المباركة، جعلنا موعد الرّجوع الجمعة فجرا.
ولمّا وصلت النّزل جاءني الأستاذان عبد الهادي عباس وفاضل حسن مباشرة ولم يتأخرا، حاملين معهم مجموعة عديدة من كتب الجمعيّة، ومنها سلسلة عندما نطق السّراة، فشكرتهم على اهتمامهم وتواضعهم.
وبعدما صلّيت المغرب والعشاء، وعند التّاسعة مساء جاءني الأستاذ عبد الله محفوظ، والأصل عندي دعوة من قبل الدّكتور عبد العزيز الصّويلح للمشاركة في تدشين كتابه حضارة دلمون في جمعيّة التّأريخ وآثار البحرين، ولكن ارتأيت أن انظر إلى الجانب الآخر من حياة الإنسان البحريني الشّيعي خصوصا، حيث هذه اللّيالي الثّلاثة من بداية أيام شهر شعبان تسمى بالأقمار الشّعبانيّة، فيحتفلون ليلة الثّالث منه بولادة الإمام الحسين بن عليّ [ت 61هـ]، وليلة الرّابع منه بولادة العبّاس بن عليّ [ت 61هـ]، وليلة الخامس منه بولادة الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين [ت 95هـ]، كما يحتفلون ليلة النّصف من شعبان بولاية الإمام المهدي محمّد بن الحسن العسكري.
ونحن في ليلة الخامس من شعبان أي ليلة الاحتفاء بولادة الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين، وجدت عالما آخر لم أره في حياتي إلا لفتات بسيطة في قم في إيران، ومطرح في مسقط، لكن هنا وجدت نهارا وليس ليلا، جمعوا فيه بين الجمالين الرّوحي والاجتماعي، فرأيت الصّغار والكبار يتسابقون في إطعام النّاس، والكل يتسابق لأن تكون ضيفه، وتأكل من طعامه، كنت مسلما أو غير مسلم، فذاك يقدّم الشّاي، وآخر العصائر، وثالث الفواكه، ورابع يقدّم أكلات مختلفة، وأصوات مكبرات المآتم تسمع من بعيد، والأولاد يلعبون ويمرحون، والنّاس في المآتم بين فرح يختمه حزن عندما يذكر الحسين ومن بعده من ذريته ومعاناتهم.
حضرنا بداية حسينيّة القصّاب، ومكتوب أنّها تأسست سنة 1299هـ/ 1881م، ثمّ حضرنا حسينيّة البدع، وفيها كان سماحة الشّيخ محمّد بن عليّ المحفوظ، واستمعنا لما قدّمه عن هذه اللّيلة وقمرها زين العابدين، عليّ السّجاد بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وهو رابع أئمّة الشّيعة جميعا، ثمّ سلّمنا عليه ورحب بنا، وبعد هذا ودعت الأستاذ عبد الله المحفوظ، وشكرته على إعطائنا جزءا من وقته، وعلى تواضعه وكريم خلقه، ولقد زارنا بعد فترة بسيطة في عمان، وتناولنا العشاء مع جمع من الأخوة في مسقط.
وبهذا رجعت النّزل بعد جهد علمي ومعرفي من الصّباح، وأول الفجر حضر الأستاذ فريد عبد الوهاب، فخرجنا من البحرين صباح الجمعة 12 أبريل، وكعادته يكون محضّرا الفطور في السّيارة مع وجبة خفيفة وشاي وقهوة، فلم نتوقف في الجملة إلا قليلا، وتناولنا الغداء في منطقة السّلع بعد حدود الإمارات، ووصلنا مسقط مبكرا.
وبهذا نختم رحلة أخرى لنسّجل توثيقا عن بلد يقربنا كثيرا، ولكن نجهل الكثير من معالمه، وجدت هناك الصّورة الأخرى من صور التّعايش والتّسامح والمحبة، وركزت على الجانب الإيجابي؛ لأنّه الأكثر، وحتى نلتفت إليه أكثر وفق الدّائرة المشتركة بين الجميع.
وكنت متصوّرا أن يكون أغلب الجدول فارغا، ولكن وجدت العكس، فبحثت عن فراغ أسدّه لألبي طلبات بعض الأخوة والشّباب ولكن لم أجد، ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه، ولولا ارتباط الأستاذ فريد لزدت يومين أو ثلاثة لأكشف المزيد، ولقد استحييت منه، ولقد زاد في جدوله يوما آخر، وأردت أن اشتري بعض الهدايا من حدود السّعوديّة، وكعادتي اشتري القهوة السّعوديّة من البطحاء لكنني وجدت المحلات مغلقة لأننا وصلنا وقت صلاة الجمعة، ولمّا وصلت السّكن تفاجأت أنّ الأخوة ومنهم الأستاذ فريد وضعوا الهدايا من الحلويات البحرينيّة مع الكتب، فلهم الشّكر سلفا، والحمد لله ربّ العالمين.