جمال النوفلي
السبب الحقيقي وراء توقفي عن إكمال حكايتي هذه عن رحلتي من باريس الى قرية تشافهاوزن في سويسرا هو أنني ضربت ضربا مبرحا في هذا اليوم الذي سأحكي لكم حكايته، كان ذلك في إحدى حانات شارع بيجال في باريس، والحقيقة المرة التي لن تعجب أحدا هو أنها لم تكن حانة عادية وإنما كانت ناديا للتعري.. ، حقيقة لم أكن أتخيل أن أجد نفسي يوما في واحدة من هذه الأندية الفاسدة، ولكنه حصل رغما عني وليته ما حصل، وقد نلت جزائي القاسي بسرعة، القصة ابدأت قبل يوم من وقوع الحادثة عندما اجتزت مع نسيم شارع بيجال ورأيت فيه حانات عتيقة وأزقة ضيقة تفوح منها روائح كريهة مختلطة، أخبرني وقتها نسيم بأن هذا الشارع هو شارع بيجال وهو أوسخ وأغرب شارع في باريس، حيث كان قديما يعتبر شارع الثقافة والفلسفة والأدب، ولكنه أصبح مع مرور الزمن وكرا للفساد والجرائم.. ، في تلك الساعة لم يسمح لي نسيم أن أشبع فضولي بالبقاء للتعرف على هذا الشارع العظيم الذي مشى على رصيفه فولتير وحزن فيه كافكا وسخر من رواده سارتر.. ، لذلك أقسمت أنني سوف أعود إليه في هذا اليوم رغم تحذيرات نسيم شديدة الوقع.
صحوت باكرا كعادتي على ضجيج قطار المترو الذي يمرق مزلزلا الدنيا في أنفاق محفورة أسفل الفندق، وبعد الاستعداد للخروج هبطت من غرفتي على لسلم خشبي مكسو بالسجاد إلى قاعة الاستقبال، حيث كان هناك كمال ( أخو نسيم) منهمكا في أعمال الفندق الصباحية، وما فتئ أن ابتسم عندما رآني وقال : بونجور ، فقلت : بونجور.
أخبرته منبها له أن نسيما لن يأتي لصحبتي اليوم بسبب انشغاله في بعض الأمور، فامتعض كمال من تصرف أخيه غير اللائق مع ضيفه، لكنني قلت له: لا داعي للقلق.
والحقيقة هي أن نسيم لديه موعد غرامي اليوم مع صديقته كاثرين.
ثم أضفت مستدركا: أن نسيما أخبرني أيضا أنكم توفرون لي وجبة افطار، قال نعم وأشار إلى أربع طاولات صغيرة مصلقة بالجدار في نهاية ممر قليل الضوء، فذهبت وجلست إلى إحداها متأملا في اللوحات الجدارية وفي كمال الذي ترك مكتبه وشرع في إعداد وجبة فطور لي .. ، الفطور كان بسيطا جدا برتقالة واحدة مع قطعة خبز فرنسي طويلة وكثير من الجبن وقهوة سوداء جدا. لا يمكنني أن أتذمر بطبيعة الحال فأنا شبه ضيف، كما أن الطعام في باريس باهض الثمن .
حسنا يا أصدقاء، لا تقفزوا الفقرات، أعرف أنكم تستعجلون معرفة حادثة الضرب، ولكني يجب أن أخبركم تفاصيل ما حدث قبلها، فهي أيضا مهمة ومثيرة.
خرجت من الفندق مرتديا قميص نسيم الذي أعارني إياه، قاصدا الذهاب إلى برج ايفيل ثم التجول في الشوارع والتقاط الصور، وإن حالفني الحظ قد أتعرف على فتاة فرنسية جميلة أقضي معها بقية أيامي في باريس وأدعوها إلى تناول الغداء في شراع بيجال أو الشانزيليزيه، وهكذا فتحت الخارطة التي أحذتها من الفندق ومشيت مباشرة نحو برج ايفيل، وصلت البرج الذي لم يكن بعد أكثر من نصف ساعة مشيا من الفندق، وكان مزدحما بالناس، واكتشفت أن هناك ساحة مرتفعة خلف البرج يفصل بينها وبينه شارع ونهر السين لم أكن لاحظتها في أول يوم، ويتمد منها جسر حجري مقوس ينتهي أمام البرج، فمشيت عليه حتى وصلت الساحة، فرأيت عددا كبيرا من السياح من مختلف الجنسيات، ورأيت أشخاصا يشحتون وأشخاصا ينهبون وآخرين يقدمون عروضا بهلاونية، كل يمارس طريقته لأجل الحصول على النقود.
التقطت لنفسي بعض الصور، ومضيت أمشي نحو الغرب بمحاذاة النهر قاصدا الذهاب إلى شارع بيجال الكريه، وفي طريقي وجدت جسرا اخر يبرط بين ضفتي النهر، وكانت هناك تماثيل أطفال على جانبيه وكأنها تماثيل ملائكة أو آلهة يونانية، رأيت بعض السياح وهم يتوقفون عندها لالتقاط صور تذكارية، طلب مني عجوزان أن ألتقط لهم صورة تجمعهما ففعلت، وضع كل منهما أحدى يديه على وسط الآخر وابتسما بسعادة عميقة لا أتخيل حجمها، لأنه من النادر أن أرى في بلدي أزواجا يبتسمون بعمق لبعضهما، ثم طلبت منهما أن يفعلا المثل معي ففعلا..، أي التقطا لي صورة بهاتفي وأنا أمسك بيد الطفل الملائكي، وكانت تلك أول مرة تلامس فيها يدي يد ملاك، كان العجوزان سعيدين جدا أيضا عندما رحلا عني يشدان بأيدي بعضهما وهما يعبران الطريق، أما أنا فقد أتكأت على سياج الجسر، متأملا امتداد جريان النهر والمسافة التي قطعتها، وأجيل نظري في الأبنية العتيقة التي لا تتبدل ولا تتآكل بالرغم من قدمها وبالرغم من الأهوال، ثم أرى القوارب السياحية مختلفة الأشكال والأغراض، بعضها فخم جدا يحمل فيه عددا بسيطا من السياح، وبعضها عادي وثري بالمحبة والناس المتتوعين.. ، ثم لحظت جلبة تحصل أسفل مني ، أي أسفل الجسر الذي أقف عليه في الضفة التي أتيت أمشي عليها، كان هناك شخص جنبازي يحيط به عدد من الأشخاص المنبهرين، ربما كانوا سياحا، وكان هو يتحدى هؤلاء الناس بشيء بسيط جدا، إذ يتعهد لهم بأنه سوف يعطي أي متحدي ضعف المبلغ الذي يدفعه اذا عرف تحت أي كأس مقلوب يوجد الحجر، وكانت هناك ثلاثة كؤوس مقلوبة فقط وحجر صغير واحد، وكنت أراقب تجارب المتحدين من الأعلى، والغريب أن الجنبازي الساحر لم يكن يبذل مجهودا كبيرا لإخفاء الحجر، فهو يقوم بعميلة تضليل بسيطة بإمكان حتى الطفل كشفها، ثم يأتي المتحدي فيقول للساحر سأراهن بـ 100 يورو فيفتح الساحر الكأس، فإن كان تحته حجر أعطاه الساحر مئة يورو أخرى، واذا لم يكن تحته حجر أخذ الساحر المئة يورو أو أيا كان المبلغ.. ، جاء رجل فتحدى الساحر بخمسين يورور، وعرف بسهولة موضع الحجر، وكسب خمسين يورو أخرى، ثم عمل الساحر عملية تضليل مرة أخرى وجاءت امرأة وعرفت موضع الحجر وكسبت مبلغ 100 يورو ، ثم جاء ثالث ودفع خمسين يورو لكنه أخطأ فخسرها..، ثم تحدى مرة أخرى بمائة يورو وعرف الكأس الصحيح وكسب مائة وعوض خسارته ..، جاءت سيدة خمسينية سائحة وراهنت بمائتين يورو وكانت شبه متيقنة من موضوع الكأس لأن الساحر لم يقم بتغييره من آخر لعبة وكانت هي واقفة معهم منذ فترة تراقبه، ولكنها أخطأت وخسرت المائتين.. ، حزن الجميع لأجلها وضحك بعضهم عليها، كنت أراقب بشكل دقيق لأني نويت أن أشارك بمبلغ 20 يورو فالعملية جدا بسيطة وبكل تأكيد سأكسب، لأنني كشفت الخدعة، الخدعة هي أن الساحر يقوم بخفة يد ساحرة بتغيير موضع الكأس بعد اختيار المتحدي للكأس المقلوب دون أن يشعر المتسابق بذلك، الأشخاص الذين كان يفوزون بالرهان كانوا يضعون أقدامهم على الكأس حتى لا يقوم الساحر بتغييره.. .
وهكذا نزلت معهم واقتربت من الساحر وراقبته جيدا حتى تأكدت مليون بالمائة من الكأس الصحيح ودست عليه بقدمي، قال لي: بكم تراهن على أن موضع الحجر هنا، قلت: 40 يورو.. ، قال حسنا. ووضع قدمه أيضا على الكأس لتاكيد اختياري وطلب مني أن أعطيه الاربعين يورو.. ، فأخرجت محفظتي من جيب بنطالي الجنز، وأخرجت الأربعين يورو وأعطيته إياها وأنا كلي يقين بأني سأكسب الرهان. ( كانت خطتي أن الساحر إن كان يريد أن يخدعني فسوف يجلعني أكسب المرة الأولى لكي أتشجع فأشارك بمبلغ كبير، لكنني لن أفعل سأكسب الثمانين وأرحل، هكذا خططت).
المهم أمسك الساحر المبلغ من يدي وفتحنا الكأس وكانت الكأس فارغة.. ، يا للهول ويا للصدمة، وكأنه سكب على رأسي ماءًا باردًا، لقد كنت أراقبه ساعة كاملة حتى اكتشفت حيلته، فكيف وقعت في الغلط. تبا لي . أين الخطأ، التفت حولي رأيت العيون التي حسبت أنها ستنظر لي نظرة إعجاب، رأيتها تنظر لي إلي نظرة استغفال..، وكأنها تقول: يا مغفل يا بغام.
بقيت ساعة أخرى حانقا غاضبا نادما لأكتشف الحقيقة، وأتجرع الصدمة، صدمة أنني لست ذكيا جيدا كما كنت أتوهم، وتعزيتي في مصابي هي السيدة الخمسينة التي خسرت 200 يورو ، كانت أسوأ مني حظا وأكثر ألما وفجيعة، كانت الدموع تترقرق بين عينيها من الحزن، عزمت أن أبذل كل جهدي الذهني في التركيز لأعيد كرامتي وأعيد أموالي وأموالها من الساحر، اكتشفت بعد نصف ساعة من التركيز أن الخطأ الذي ارتكتبه أنني رفعت قدمي من الكأس قبل أن نفتحه، وأنه في الثواني التي أخرجت فيها النقود من محفظتي قام هو بتغيير موضع الكأس.. ، تبا له هذا تدليس ونصب.
اخبرني أحد المتسابقين الذي كان يكسب كثيرا أنه يجب الا أرفع قدمي من الكأس حتى يفتحه، وطلب مني أن أنظر كيف يفعل، وفعلا فعلها أمامنا وكسب 100 يورو.
لكني قررت التريث قليلا قبل أن أغامر بالثلاثين يورو المتبقية في جيبي،، بعد دقائق سمعنا صفارة الشرطة فإذا بالساحر يحمل كؤوسه ويهرب جريا بين الأزقة، وهرب أيضا صديقنا الناصح الذي كان يكسب كثيرا..، ويعلمنا كيف نكسب، وهربت معهما أيضا إحدى السيدات التي شاركت في الرهان وخسرت.. ، وبقينا أنا والسيدة المنكوبة وبعض المارة، الذي ضحكوا علينا بسخرية مقيتة، وسألتهم لماذا هربوا؟ فقالوا: إن هؤلاء مجموعة من المحتالين الذين يسرقون السياحة، وأن الشرطة تمنع هذه الممارسات.
كادت السيدة الخمسينية تموت من الكمد على ما أصباها من خسارة فسالت الدموع من عينيها.. ، لم تكن تتحدث الانجليزية.
قال أحدهم أنها راهت عدة مرات من أجل استعادة مالها وفي كل مرة تخسر الرهان.
*الصورة من موقع محرك البحث العالمي (جوجل)