د.معمر بن علي التوبي
أكاديمي وباحث عُماني
من دواعي الحس المعرفي الذي أراه في عالم التقنيات الذكية وأبرزها عالم الذكاء الاصطناعي وعلاقتها بعالمنا الإنساني المتمثل في الوعي فإنني وجدت من المستحب أن أعيد نشر ما سبق وأن عرضته في كتابي الأول “بين العلم والإيمان” من خلال قالب مقالي يسهل قراءته والاستفادة منه، فقدرتي على تتبع العلاقة بين الوعي وعالم التقنية الذكية أراها من المسائل الصعبة والمعقدة التي ليس من السهل أن أصل قطعًا إلى إدراكها المطلق، وتظل نسبية الفهم المحاطة بمنهج الشك المعرفي ملازمة لهذه الرحلة، ولهذا من الجلّي القول أن الجدل ما يزال مستمرًا إلى وقتنا الحاضر حول قدرة الذكاء الاصطناعي عبر تطبيقاته وأنظمته المختلفة مثل الروبورت (الرجل الآلي) أن يشعر ويدرك أو بالأحرى يمتلك الوعي كما نحن نمتلكه أم لا، ولنقترب أكثر من الإجابة الأكثر قربًا من الصحة؛ فقراءة سريعة في مفهوم الذكاء الاصطناعي من حيث تاريخه، تعريفه، طريقة عمله وأدواته ولوغارتمياته وكذلك تطبيقاته الحالية ستقود إلى مرحلة معرفية جديدة.
لابد من الإشارة إلى أن الذكاء الاصطناعي مهما بلغت قدراته وقوته فهو نظام ابتكره الإنسان مع توضيح قدرة هذا النظام على التفكير والتعلم المستقل بل والتنبؤ بالقادم وفق الحسابات التي تخص الماضي والحاضر، وربما قدرته أيضا على بلوغ مراحل يتفوق فيها على العقل البشري إلا أن الوعي أراه أقرب إلى الجانب الروحي (كما وضحت في كتابي “بين العلم والإيمان”)؛ وبالتالي يمكنني -على وجه الاحتمال- أن اطلق على الوعي وصف الروح الذي لا يمكن للعلم أن يجد له تفسيرًا ماديًا، وهنا أقول بكل وضوح إن الذكاء الاصطناعي مع كل تفوقه وتطوره السريع فهو جانب مادي بحت لا يتمكن أن يأتي بقدرات فوق حسية أو خارقة، والوعي جانب روحي يمثل الروح التي لا نعي منها سوى ما هو ظاهر لنا من شعور وأحاسيس وقدرات تتجاوز الزمان والمكان. وقبل أن أجيب عن بعض الأسئلة التي تخص الذكاء الاصطناعي سأتطرق إلى ما يقوله بعض كبار علماء الحاسوب والفيزياء عن مسألة امتلاك الحاسوب للوعي.
استطاع العالم البريطاني ألن تيرنج (Alan Turing) من خلال محاولته لمعرفة هل الحاسوب يتوقف عند مرحلة ما عن تقديم الحلول والمخرجات أم أنه يستمر في تقديم النتائج والمخرجات الصحيحة والمفيدة بلا توقف -كما يستطيع العقل البشري أن يقرر- وببساطة برهان تيرنج يرى أنه لا يمكن معرفة هذا، ولا يمكن عمل لوغاريثم يستطيع تقرير التوقف من عدمه قبل اختبار البرنامج ومعرفة النتائج؛ ولهذا لو قلنا إن للحاسوب عقلا فهو حينها قاصر في صناعة مثل هذا القرار وهذا عكس العقل البشري؛ وبالتالي من خلال برهان تيرنج يمكن استنتاج عدم قدرة الحاسوب أو العقل الصناعي أن يمتلك الوعي.
قام عالم بريطاني آخر وهو روجر بنروز (Roger Penrose) بنشر كتابه “عقل الإمبراطور الجديد” (Emperor’s new mind)، ومن خلاله برهن بنروز أن الحاسوب لا يمكن أن يحاكي الوعي والإدراك البشري، واعتمد في تفسيره هذا على برهان تيرنج في مسألة التوقف، واعتمد أيضا على تفسير بيولوجي يخص الدماغ البشري، وهو أن المنطقة السفلى من الدماغ (Lower level) مسؤولة عن نشاطات مثل مراقبة سلوك أعضاء الجسم، وهذا نظام لوغاريثمي (Algorithmic) أي يعمل وفق خطوات معينة. في المقابل فإن الجزء الأعلى من الدماغ البشري (Higher level) مسؤول عن التفكير والإبداع وحل المسائل، ويعمل وفق نظام لا لوغاريثمي (Non-Algorithmic). والذي خلص إليه بنروز هو أن النظام اللالوغارثيمي قد يملك الوعي، وفي المقابل فالنظام اللوغارثيمي لا يملك الوعي فهو يعمل وفق خطوات معينة ومحددة؛ بالتالي فالدماغ البشري يملك الوعي في منطقته العليا، في حين الحاسوب يعمل وفق نظام لوغاريثمي وهو بالتالي لا يملك الوعي .
سأحاول الآن أن أجيب على هذا السؤال: هل يمكن للذكاء الاصطناعي -كما يروّج له في بعض أفلام الخيال العلمي- القدرة على امتلاك الوعي؟ أم أنه سيظل جانبًا ماديًا مستقلا في قرارت مادية بحتة لا تخص أي عالم خارجي؟ هذا سنراه واضحا بعد أن نقترب أكثر من تلخيص فكرة الذكاء الاصطناعي في السطور القادمة.
الذكاء الاصطناعي مصطلح يطلق على الآلة أو النظام الرقمي الذي يعمل وفق لوغاريثمات تسمح له بالتعلم الذاتي، ويحاكي العقل البشري في اتخاذ القرارات المختلفة وصناعتها، وهو أيضا يحاكي الدماغ في بعض مكوناته كالشبكات العصبية المتصلة مع بعضها البعض، والتي تستقبل المدخلات وتقوم بالتحليل والحساب اللازم لتقديم المخرجات المطلوبة. الشبكات العصبية الصناعية التي تعتبر النوع الأهم في الذكاء الاصطناعي قُدِمت لأول مرة عام 1943م عبر العالمين ماكلوش وبيتس(Warren Sturgis McCulloch and Walter Pitts)، وهناك عدة أنواع لأنظمة الذكاء الاصطناعي وأهمها تعليم الآلة (Machine Learning)، ولهذا النوع أنظمة تنتشر في الوقت الحاضر وأهمها تطبيقات سيري (Siri) في الآيفون وألكسا (Alexa) التابع لشركة أمازون (Amazon) ومساعدة جوجل (Google Assistance) التابع لشركة جوجل المستعمل في أنظمة الأندرويد (Android) والذي يتفرع منه نظام التعلم العميق (Deep Learning)، وهو من الأنواع الأكثر انتشارا في أنظمة الشبكات العصبية الصناعية ولها لوغارثميات وطرق رياضية كثيرة إلا أنها تتشابه في فكرتها العامة، وبإمكان هذا النوع تصنيف الأشياء والتنبؤ بحصول الأشياء وفق المعطيات أو المدخلات من خلال عملية التعليم التي تسمح للنظام الذكي أن يتعلم ويتطور بنفسه في المستقبل، وهذا ما يسمح لنا أن نطلق عليه بالذكي نظرًا لقدرته على اتخاذ القرارات بشكل مستقل؛ فهو أشبه بطفل يتعلم وبعدها يكبر ويكون مستقلا في صناعة قرارته، ويتكون هذا النوع من ثلاث طبقات رئيسة وهي: (طبقة المدخلات (Input layer)، والطبقة المخفية (Hidden layer)، وطبقة المخرجات (Output layer) )، وكل طبقة تحتوي على عدد من الخلايا العصبية، وكلما زاد عدد الخلايا العصبية زاد النظام تعقيدًا وذكاءً، وهو نظام يشبه نظام الدماغ من حيث الاستقبال والتحليل ثم إخراج النتائج، فطبقة المدخلات تستقبل كل ما هو مطلوب ومتعلق بالموضوع المراد تحليله أو التنبؤ به عبر المصادر الخارجية، والطبقة المخفية تقوم بالتحليل وربط الخلايا العصبية في المدخلات بالتي في المخرجات للوصول إلى النتائج المطلوبة.
كذلك هناك أنواع أخرى مثل الربورت (الرجل الآلي الذكي) الذي يعتمد أيضا على أنظمة ذكية يشبه بعضه نظام التعلم العميق، والأنظمة المستخدمة في تمييز الصور وتحديدها مثل المستعملة في وقتنا الحاضر بعض المطارات أو المراكز الحساسة أو حتى الشوارع مثل التي في الصين، كذلك الأنظمة المستعملة في اللغات ( Natural Language Processing-NLP) وهي واسعة الاستعمال خصوصًا مع أنظمة جوجل مثل الترجمة وتغيير النص إلى صوت والعكس أيضا، وإجابة الأسئلة، كذلك الأنظمة المستعملة في اختيار المواضيع والإعلانات التي تناسب الميول الشخصي مثل التي في محرك البحث جوجل أو اليوتيوب. تطبيقات الذكاء الاصطناعي في توسع وتطور مستمر، ونراها اليوم تدخل في جميع جوانب حياتنا من خلال قدرتها على العمل جنبا إلى جنب مع تقنيات أخرى مثل إنترنت الأشياء (Internet of Things) وتقنية النانو (Nanotechnology)؛ مما يسمح لهذه التطبيقات الذكية الولوج في كل شيء يخص حياتنا.
السؤال الصعب الذي يمكن أن نطرحه هنا هو: هل بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يمتلك الوعي؟ طالما وجدنا من خلال عرضنا المختصر عن الذكاء الاصطناعي وأنظمته المتعددة أن هناك تشابها بين الدماغ البيولوجي والدماغ الصناعي أو كما نعرّفه بالذكاء الاصطناعي من حيث انتقال المعلومات وترابطها وتحليلها، وبعدها قدرة الدماغ على فرزها وتصنيفها أو اتخاذ القرار وإعطاء النتائج بشأنها، وهنا نجد أن النظام البيولوجي من الممكن محاكاته؛ وبالتالي نحن نقترب من امتلاك دماغ صناعي فيه أغلب مواصفات الدماغ البيولوجي البشري بل ويتفوق عليه، وفي حالة اتفاق البعض من الفريق المادي القائل بوهم الوعي أو حتى بأن الوعي نظام بيولوجي لا أكثر؛ فهم أكثر قدرة على الاعتقاد بقدرة الذكاء الاصطناعي على امتلاك الوعي -إن لم يكن يؤمن البعض أن الذكاء الاصطناعي أصبح يملك الوعي- عبر صنع لوغاريثم ونموذج رياضي معقد يحاكي النظام البيولوجي.
لكن ماذا عن تفسيرنا السابق للوعي وأن الوعي ليس مجرد قدرة على الفهم والاستيعاب والجواب والذكاء والفطنة وسرعة البديهة إلى ما شابه من المواصفات الأخرى؛ فالوعي مشاعر تتفاعل مع المحيط والكون، والوعي مراحل من خلالها يحدث الاتصال مع باقي الأشياء من حولنا ليتولد الشعور بالسعادة والخوف والغضب والقلق والطمأنينة بدون أي زيف اصطناعي أو حتى مجرد نشاط كيميائي وموجات كهربائية معينة. والوعي أيضا خروج عن المألوف والقوانين الطبيعية؛ مثل امتلاك القدرات الفوق حسية، واختراق لجدار الزمن وتجاوز المكان، حينها يخرج تعريف الوعي عن كونه مجرد وهم أو نشاط بيولوجي وكيميائي، بل ينتقل مفهومه حسب العمق الديني أنه الروح التي تحمل السر الأعظم للحياة والوجود. ربما من السهل مستقبلا أن نكتشف كل شيء عن الشفرة الوراثية ونحاكي عمل الحمض النووي (DNA) ولكن كيف يمكن أن نصنع الوعي الذي لا يملك العلم اليوم أي قدرة حتى على تفسيره، ولربما يحاول الفلاسفة أن يغوصوا في عمقه عبر العلم تارة وعبر المنهج الفلسفي تارة أخرى، ولكن دون الوصول إلى اتفاق وإجماع.
ربما يظن البعض أنه من السهل أن نصنع الوعي في الآلة عبر المحاكاة البيولوجية بابتكار نظام للتعلم الذاتي وبعدها الوعي الذاتي، ولكن هنا لا يمكن أن نطلق على قدرة هذه الآلة من حيث سرعة الحساب والجواب والتفاعل مع المحيط أنها واعية؛ فالوعي منظوره مختلف، وهو ليس مجرد ذكاء خارق؛ إنما شعور مختلف، فالآلة مهما بلغت من الذكاء فلا يوجد دليل إلى يومنا أنها يمكن أن تجرب الشعور بالألم أو النوم والأحلام، ولو فرضنا أنها استطاعت ذلك ولو بعد مئات السنوات من اليوم؛ فما هو هذا الشعور؟ وهل هو حقيقي ويمكن أن نقيسه أم أنه مجرد شعور صناعي يحاكي ذلك الشعور الحقيقي؟ هنا نجد أنفسنا أمام تيار من الأسئلة الكثيرة من ضمنها أن النظام البيولوجي من الواجب أن نجده مزيجا من الجسد المادي (البيولوجي والفيزيائي) ومن الروحي (الوعي)، وهذا يقودنا إلى عمق آخر وهو أن أجسادنا -بالأحرى- آلات بيولوجية، ولكن ما يعطي لأجسادنا وشعورنا جوهر الوجود هو الغائية والشعور الدائم بالحاجة عبر كل النشاطات والمشاعر الداخلية، وهذه الغائية لا يمكن أن تكون مجرد صراع بيولوجي من أجل البقاء؛ فهنا الذكاء البيولوجي لا يمكن أن نضعه موضعًا كهذا مهما بلغ تعقيده وعبقريته، حينها هناك إدراك آخر نطلق عليه الوعي، وهو ما أستطيع أن أعرّفه بالروح، وهذا ما يجعل الفرق بين الآلة البيولوجية (مثل الأجساد البشرية) -التي طالما تمدّح البشر بمعرفتهم الضيقة بها وقدرتهم على صناعتها ومحاكاتها، ولكنهم عجزوا عن الإتيان بأهم أسرارها مثل مصدر الحياة ونشاطها الفوق حسي وموتها- وبين الآلة الصناعية الذكية التي عجز العلم إلى يومنا أن يجعل منها كائنًا حيًا يملك مبدأ الغائية والدفاعية البشرية أو حتى تملك حظا من رحلة الحياة التي تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت.
قد يكون هناك من يظن (وهذا حق علمي مشروع) أن العلم سيبتكر كائنات صناعية أكثر رقيًا وذكاءً من الإنسان العاقل، بحيث إنها لن تمرض ولن تشيخ ولن تموت؛ وبالتالي يتحقق فيها الحلم البشري القديم “الخلود الأبدي”، قد نتمكن من فعل كل هذا ولكن أهم سؤال يمكن أن نطرحه هنا هو: هل -يومها- سيكون لهذا الكائن الصناعي الوعي والروح؟ وسؤال أبسط نطرحه وهو: هل يمكن لهذا الكائن أن ينام ويحلم ويرى بعض أحداث المستقبل؟ سأدع الإجابة مفتوحة للجميع.
● حررته “بتصرف” من كتابي “بين العلم والإيمان”، الطبعة الأولى (2019) عن دار الغشام.