بدر بن سالم العبري
بعد جلسة الحبيب علويّ الكاف بعد الغداء ذهبنا إلى مرباط، وشاركنا من الأخوة من صلالة الحبيب علويّ الكاف والحبيب فيصل المشهور والحبيب أحمد باعلويّ، ومرباط كما في موقع وزارة الإعلام العمانيّة: “تبعد عن مدينة صلالة بنحو 74 كيلومترا، [وهي] إحدى المدن التّأريخيّة المهمّة بمحافظة ظفار، وتقع في سهل جبل سمحان، وتطل على ساحل بحر العرب، وقد سمّيت مرباط بهذا الاسم نسبة إلى مربط الخيل، حيث اشتهرت في القرن التّاسع الميلادي بتربية الخيول وتصديرها إلى العديد من الموانئ والمدن العربيّة والاسلاميّة، بالإضافة إلى تجارة اللّبان والمنتجات الحرفيّة المختلفة”.
وسابقا زرنا جبل سمحان، وسبق الحديث عنه، ووصلنا ابتداء حصن مرباط، وهو يهل على البحر، وشاهدنا الأولاد يمرحون ويلعبون، ويسلّمون على الغريب، ويقترب منه ميناء مرباط القديم، وهو ميناء يعود إلى القرن التّاسع عشر كما في في موقع وزارة الإعلام العمانيّة، إلا أننا لم ندخل الحصن، والظّاهر كان مغلقا لتأخر وقت وصولنا، كذلك مررنا على بيت سيدوف أو نزوى، وهو بيت قديم يعود إلى مائتين سنة، فلمّا رأيت هذا البيت ومعمار مرباط تصوّرت أنني في المغرب العربيّ، لتشابه العمارة.
ثمّ زرنا مرقد صاحب مرباط العلّامة محمّد بن عليّ خالع قسم بن علويّ [ت 556هـ]، ويعود نسبه إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب [ت 61هـ]، وتوجد لوحه بجانب الضّريح مكتوب فيها نسبه بالكامل، وأصله من تريم اليمن، واستقر ومات في مرباط، وجاء في الموسوعة العالميّة [ويكبيديا]: “محمّد صاحب مرباط …. إمام وتاجر وزعيم اجتماعي، ذو جاه واسع في ظفار وحضرموت، ومنه تتفرع أسرة آل باعلوي، كان مستقرّه في أرض ظفار، وفيها اشتهر أمره، وذاع صيته، حيث قام بإدخال المذهب الشّافعي والعقيدة السّنيّة إليها، كما قام بدوره في توطيد العلاقات بين الدّولتين المنجويّة بظفار والرّاشدية بداخل حضرموت، ولُقّب بـصاحب مرباط لأنه تديّرها في آخر عمره، ومرباط هي ظفار القديمة”.
وشهرة صاحب مرباط كما أخبرني الحبيب سالم المشهور ليس فقط في عمان وحضرموت فقط، بل له شهرة كبيرة في شرق آسيا وخصوصا أندونيسيا، ولهذا يزور ضريحه المئات من النّاس سنويّا للتّبرك والتّوسل بالصّالحين، ولا يوجد لدينا نحن في المذهب الإباضي التّوسل والتّبرك بالأموات، وهي مسألة رأي واسعة تشدد فيها البعض وأوصلها إلى الشّرك، وإن كنت شخصيّا لا أستصيغ ذلك، وأرى الوسيلة بأسماء الله وصفاته، وبما يعمله الإنسان لنفسه من خير في حياته، وقد ذكرت بعض ذلك في الرّحلة القميّة في إضاءة قلم الحلقة الأولى أثناء زيارة ضريح فاطمة المعصومة بنت الإمام الكاظم [ت 201هـ] في قم في إيران، ولكن لا نحكم على من يفعل ذلك بالشّرك أو نفسّقه؛ لأنّه يدعو الله وحده، ويؤمن أنّ المتصرّف هو الله، ولكن يتوّسل بهؤلاء الصّالحين إليه، ويخصّون آل البيت، وهنا طلب منّي الحبيب علويّ الكاف الدّعاء فتعذرت له، فدعا الأستاذ أحمد النّوفلي، ثمّ كان دعاء الحبيب علويّ الكاف، وشاركنا الدّعاء خادم مقام صاحب مرباط الشّيخ عليّ بن جعلان اليافعي، وهي أسرة تتوارث في خدمة المقام، ويصرف لهم راتبا من الدّيوان، وقد شرح لنا الشّيخ عليّ شيئا من المقام، وسجلّته في دفتر لي أسجل فيه المذكرات الخاصّة بي، إلا أنني فقدت الدّفتر في معرض مسقط للكتاب 2019م.
عموما توجد مقبرة خارج الضّريح، ويوجد آثار بيوت قديمة، وكنّا نرجو زيارة ضريح الإمام القلعيّ، وهو العلّامة أبو عبد الله محمّد بن عليّ القلعيّ (ت 577هـ)، وأصله كما جاء في كتاب الإمام القلعيّ للدّكتور محمّد المهريّ ص (16): “من حلب الشّاميّة، ووطن المنشأ والمنبت … زبيد اليمانيّة، ووطن المهجر والمرقد … مرباط الظّفاريّة”.
وجاء في مرباط في القرن السّادس الهجريّ في عهد المنجويين، الأسرة الّتي حكمت ظفار حينها، ويعتبر من رموز المذهب الشّافعيّ في العالم بشكل عام، وفي ظفار واليمن بشكل خاص، وكرّمه النّادي الثّقافي في مسقط بندوة خاصّة له ضمن سلسلة من أعلامنا يوم الاثنين 27 صفر 1434هـ، يوافقه 30 ديسمبر 2012م، وجمّعت البحوث وقدّم لها الدّكتور محمّد بن مسلّم المهري وطبعت في كتاب نشر دار الغشام حينها والنّادي الثّقافي.
كما كنّا نرجو أن نزور ضريح الصّحابيّ في مرباط زهير بن قرضم [ت ؟]، يقال أنّه من الشّحر، ووفد إلى النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، وضريحه بمرباط، لهذا ولضيق الوقت أذّن المغرب وذهبنا للصّلاة في أحد المساجد، وكان الإمام صوته نديّا، ويرتّل القرءان بصوت جميل، وبعد الصّلاة ذهبت للسّلام عليه، فتصوّرته في الابتداء عمانيّا؛ لأنّه يلبس الملابس العمانيّة، ولكن أخبرني أنّه من بنجلاديش، تعاقدوا معه جماعة المسجد بمبلغ بسيط، وهو رجل بشوش مبتسم، يتقن العربيّة، وقدّم لنا الماء للشّرب.
ثمّ رجعنا بسرعة لارتباطنا بمحاضرة في مكتبة دار الكتاب بصلالة، وخشينا التّأخير، فوصلنا إلى النّزل لإنزال الحقائب وكانت جاهزة، ووجدنا الأستاذ عبد الله العليان ينتظرنا، فتقدّمت أنا والعليان في سيارة الحبيب باعمر، وبقيّة الأخوة ذهبوا مع الحبيب فيصل المشهور لأخذ الحبيب سالم المشهور، ووصلنا والحمد لله قبل الموعد في المكتبة، وهي تقع في صلالة الوسطى، أسّسها الأستاذ عبد القادر الغساني [ت 2015م]، وضمّت المئات من كتبه الّتي جمّعها طيلة حياته المعرفيّة، والآلاف من المجلّات، وافتتحها السّلطان هيثم بن طارق في 23 فبراير 2015م، ووجدنا الأخوة ينتظرونا، ورحبّوا وعلى رأسهم سعادة عليّ المعشني، والمكرّم مصطفى الغساني، والأستاذ محمّد بن حسن الغساني، والسّيد زيد بن يحيى إمام جامع أهل البيت، والسّيد سعيد المعشني الملقب بالشّنقيطي، والعديد من الحضور، فأعددت الهاتف للتّصوير ريثما يصل باقي الأخوة، وهنا وصل باقي الأخوة، وقدّم المحاضرة والّتي من إعداد لجنة الفكر بالجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء الحبيب سالم المشهور، وبيّن الحبيب سالم المشهور أنّ أكبر أزمة نعانيها على مستوى المذاهب والأديان هي انعدام التّعارف، ثمّ عرّف بالأستاذ أحمد النّوفلي وبمحاضرته الّتي بعنوان سننيّة قراءة الآخر.
في البدء ابتدأ النّوفلي ببيان السّننيّة واشتقاقاتها اللّغويّة وخلص إلى أنّها “طريقة إلهيّة مستمرة تسري على الكون والأشياء وفق طبيعتها أو فطرتها، وتكون أيضا طريقة بشريّة يستمر عليها النّاس أو مجموعة منهم في تعامل بعضهم بعضا، أو في تعاملهم مع غيرهم من بني جنسهم، أو مع الأشياء المسخرة لهم في السّماوات والأرض، فيصح أن نطلق عليها سنّة بشريّة أو سنّة إنسانيّة، أو سنّة القوم والجماعة”.
أمّا القراءة فيرى النّوفلي هي “أوسع بكثير من تضييقها في قراءة الحروف المرسومة بالقلم، فهي عمليّة ذهنيّة من الإدراك والتّفكير والتّحليل والاستيعاب والفهم والتّدبر والنّظر والتّبصر وغيرها مما يسع العقل إعماله، وكلّ بقدر استطاعته الذّهنيّة”.
ثمّ ناقش قضيّة هل النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – كان يعلم القراءة والكتابة؟ وهل القول بذلك من اختراع المستشرقين للإساءة إلى النّبيّ؟ فبيّن بأنّ “القول أنّه – عليه السّلام – كان يعرف القراءة والكتابة لم يكن رأيا تفرّد به المستشرقون؛ بل سبقهم إلى ذلك بعض فقهاء الأمّة المحمديّة ومحدّثيها، وذلك بقصد رفع شأن النّبيّ محمّد، لأنّ جهله بالقراءة والكتابة هي صفة نقصان، بينما لا ينبغي أن يكون النّبيّ ناقصا خاصّة نبي الإسلام، أو من أجل إثبات معجزة الرّسول في تعلّمه القراءة والكتابة بأمر من الله دون حاجته إلى معلم، ومن هؤلاء الفقهاء والمحدّثين ممّن يرى ذلك أبو عمرو الشّعبيّ [ت 103هـ] وابن أبي شيبة [ت 159هـ] وأبو الوليد الباجي [ت 474هـ] وأبو ذر الهروي [ت 434هـ] وأبو فتح النّيسابوري [ت 552هـ] والألوسي [ت 1270هـ] وغيرهم، متأولين بعض الآيات، ومستدلين ببعض الرّوايات والأخبار”، ومن “المفكرين المعاصرين [ممّن تبنى] الرّأي القائل بمعرفة الرّسول بالقراءة والكتابة …. محمّد عابد الجابريّ [ت 2010م]”، إلا أنّ النّوفليّ مال إلى الرّأي التّقليدي بأنّ الرّسول لا يعرف القراءة والكتابة، وأنكر على نصر حامد أبو زيد [ت 2010م] بأنّ الأمر بالقراءة هنا بمعنى التّرديد، واستدلاله برواية الغار، وبيّن النّوفليّ أنّ رواية الغار لا تصح متنا، وأنّ “التّرديد في حقيقته ليس بقراءة، بل هو ترديد، بلا وعي ولا فهم، والقراءة بالمفهوم الّذي نطرحه هنا، لا يتعارض مع الأمر بالقراءة في سورة العلق، ومع عدم معرفة الرّسول بالقراءة، وذلك حينما نفهم مفهوم القراءة بمعنى العمليّة الذّهنيّة من التّفكر والتّدبر والوعي والتّحليل والإدراك والفهم وغيرها، في كلّ ما هو مقروء؛ وهو اثنان: قراءة الكتاب المنظور [أي] الكون، وقراءة الكتاب المسطور [أي] الوحي، أو ما تسطرّه الأنامل البشريّة، وهذا يفهم من سياق السّورة الّتي جاءت تتحدث عن قراءة الخلق، وقراءة ما علّم بالقلم”.
ومن خلال آيات التّفكر في القرآن خلص النّوفليّ “أنّ الرّسول – عليه السّلام – أنحج إنسان في قراءة الكون والإنسان وفق معطيات عصره وإمكانياته، خاصّة في فهم الإنسان وقراءته، لهذا اصفاه الله ليوحي إليه تبليغ رسالته، فاستطاع أن يقرأ الآخر من ذكور وإناث وكبار وصغار فأحسن التّعامل معهم جميعا، وذلك وفق قراءته وفهمه لتصرّفات النّاس وعاداتهم وثقافاتهم، وأخذ يدعوهم إلى الإيمان بالله، بخُلق عظيم، وكذلك استطاع التّعامل مع الحيوانات من منطلق قراءته لها بالإحسان إليها والرّحمة بها”.
ثمّ تطرق إلى آيات التّدبر في القرآن، لهذا يرى النّوفلي أنّ الرّوايات الحديثيّة أبعدت النّاس عن مفهوم القراءة بمعنى التّفكر والتّدبر، وغرست فيهم القراءة بمعنى التّرديد، كرواية “من قرأ حرفاً من كتاب الله فله بكلّ حرف حسنة، والحسنة عشرة أمثالها؛ لا أقول: الم حرف، [ولكن] ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف”، لهذا يرى “من يقرأ القرآن من أجل الثّواب والأجر دون تدبر لا يعدّ قارئا، إلا إذا أعمل عقله من فكر وفهم وتدبر وغير ذلك؛ لأنّ مفهوم القراءة يضم كلّ ذلك، وكل بقدر طاقته إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”.
ثمّ تطرق النّوفليّ إلى الجزء الأخير من العنوان، وهو مفهوم الآخر، وبيّن أنّ الآخر هو “من يخالفك في دينك أو معتقدك أو جنسك، فهو غير عنك دينا ومعتقدا وجنسا”، وسننية قراءة الآخر بمعنى “الطّريقة المتبعة في فهم وإدراك واستيعاب المغاير لك في الدّين والمعتقد والجنس”، مفتتحا ابتداء بعدم الإكراه في القرآن الكريم، وأن القرآن لم يأت “ليلغي الآخر، بل جاء يضمّه ويحتويه”، ويخلص من خلال الآيات الّتي أوردها أنّ “الشّعوب والقبائل والدّول والأجناس جعلت للتّعارف والتّآلف والتّعاون وتطبيق قيم الرّحمة والعدل والمساواة، وهي سنّة من سنن الحياة، تجري وفقها، ووفق كلّ هذه القيم الإنسانيّة تجري الحياة بمنطق الزّمان والمكان ومعطياتهما”.
وبعد هذا تطرق الموروث وأنّ فيه ما يتوافق مع سننية قراءة الآخر كرواية: “اطلبوا العلم ولو بالصّين”، ورواية: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”، ورواية: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”، كما تطرق إلى الرّوايات المخالفة لهذه السّننيّة كرواية: “أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم سمع صوتا حين غربت الشّمس، فقال: هذه أصوات اليهود يُعذّبون في قبورهم”، ورواية: “الشّؤم في الدّار والمرأة والفرس”، ورواية: “أمرت أن أقاتل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا رسول الله، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله”، وراية: “النّاس تبع لقريش في هذا الشّأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم”.
وعلى هذا يخلص النّوفلي من خلال ورقة محاضرته أنّه “من الضّروري مراجعة قراءة الآخر في الموروث وفق الآيات القرآنيّة، والسّنن الإلهيّة في الآفاق والأنفس، وذلك لأننا أمّة تنطلق في تعاملها مع الآخر من خلال الموروث من عادات وتقاليد وآراء، أي أنّنا نفكر بتفكير الأسلاف لا بتفكيرنا، وهو طريقة تجعلنا نعيش الماضي لا الحاضر، بل طريقة مخالفة للسّننيّة الّتي تستلزم من الإنسان أن يفكر بتفكيره لا بتفكير غيره، وهذا لا يمنع الاستفادة من الغير ومن تجارب السّابقين”.
وبعد المحاضرة عقّب السّيد زيد بن يحيى أنّه عندنا – نحن المسلمين – علم مصطلح الحديث، وأشاد به الموافق والمخالف، ولو فتح باب النّقد لمجرد ظاهر الحديث لفقدنا علم علل الحديث، واستدل مثلا بالحديث الّذي ذكره النّوفلي وهو حديث تعذيب اليهود، وأنّه يتناقض مع الآيات القرآنيّة، وقال: اليهود شأنهم شأن جميع الأديان الّتي كانت سماويّة، ثمّ لحقها التّحريف، وبعد نزول القرآن صارت أمّة مخالفة، بدليل أنّ القرآن لعن اليهود وذمّهم، ووصفهم بأقبح الأوصاف، فيحمل النّص على هؤلاء المحرّفين الّذين وقفوا ضدّ دعوة الإسلام ، وكذلك عقّب على نص أمرت أن أقاتل النّاس، وقال إنّ الشّيخ البوطي [ت 2013م] بيّن أنّ لفظة (أقاتل) من المفاعلة، أي لا أقاتل إلا من ابتدأ بالقتال، فالحديث في مرحلة الدّفاع، فقتال غير المسلم لعلّة الحرابة وليس الكفر.
وعقّب عليه الأستاذ النّوفليّ أنّ علم الحديث ومصطلحه والجرح والتّعديل علم موجود، وكتب حوله العديد، وهو علم داخل في الموروث، فهو أيضا بحاجة إلى غربلة ومراجعة، وأمّا حديث تعذيب اليهود فمن قواعد أهل الحديث أنفسهم أنّ الحديث يعرض على القرآن، فإذا خالف القرآن والعقل الصّريح فلا يقبل كما ذكر ذلك ابن الجوزي [ت 597هـ] مثلا، والقرآن لم يذكر شيئا من التّعذيب في القبور، فهو من الغيب، والنّبي محمّد يبلغ ما أوحي إليه ولا يعلم الغيب، ولمّا يتحدّث القرآن عن اليهود فمنهم المسلمون المسالمون بأنفسهم وألسنتهم، ومنهم المخالفون الّذين أسهب القرآن في بعض صفاتهم.
وأمّا رواية أمرت أن أقاتل النّاس فأنا قرأت كتاب الجهاد للبوطي، فكما نقرأ هذه الرّواية في سياقها أنا أدعو أيضا إلى غربلتها، وفق سياق الرّواية، فمن يقصد بالنّاس مثلا، هل جميع النّاس، أم في سياق ظرفيّ معيّن، فإذا لم أهتد إلى سياق الرّواية فهنا الجأ إلى تحليل ظاهرها وفق ما عرضت، وعرضها على القرآن والعقل، وأنا شخصيّا لا أعبّر بمصطلحيّ الضّعف والوضع، أو الصّحة والحسن إلا في سياق من أنقل عنه ذلك، وإنّما أعبّر عنها هل هي مقبولة أم لا، فقد تكون لديّ في هذا الموضع ليست مقبولة، لكن قد أقبلها في موضع آخر، مثلا قد لا أقبلها تشريعا، لكن ممكن أقبلها في الحديث عن اللّغة.
وعقّب الأستاذ عبد الله العليان أنّ هناك من المسلمين من يرى أنّه لا يرى الحوار مع الآخر لأننا في مرحلة ضعف، والصّواب الحوار هو لأجل الحوار في أيّ مرحلة، ففي العصر الأول المسلمون ضعفاء، ولكن كان الحوار مفتوحا، وهنا اتّفق معه الأستاذ النّوفلي في قضيّة الحوار لأجل الحوار وليس لأجل الإقناع.
وعقّب الشّيخ سعيد المعشني أننا نعاني من أزمة التّفريق بين النّظريّة والتّطبيق، فنظريّة التّسامح جميلة، ولكن التّراث الّذي تربى عليه المسلم، ولا يستطيع الانفكاك عنه، يبعد هذا التّسامح، مثلا روايات القرشيّة عند السّنة، ولكن عمليّا نطّبق المنهج الإباضي أنّ الإمامة أو الخلافة ليست مخصوصة في قريش، ولكن بشكل عام لا زالت حاضرة بسبب الموروث، وهنا أيضا أتّفق معه الأستاذ النّوفلي، وأضاف كون النّاس لا يطبّقون الرّواية كرواية قريش لا يعني لا أنقدها، فبعضهم لا يتعصّب للرّواية وإنّما للقبيلة، فيجد مثل هذه الرّوايات حضنا له.
وعقّب من الحاضرين أيضا أننا نسمع كثيرا عن الحوار في الوقت الحالي، ولكن ما موقعي وأنا من عامّة النّاس، فإذا قبلت الآخر، فهل هو أيضا يقبلني كما أقبله، حتى عندما نقرأ بعضنا من خلال أدبيات الماضي أو الحاضر، عقّب عليه النّوفلي: مرّة سألني مسيحيّ من فرنسا وقال: لماذا لا تأتون لدراسة الغرب كما يأتي الغرب لدراستكم، فنحن مشكلتنا لا نذهب لقراءة الآخر، وهذا عكس ما يفعلون خصوصا الغرب.
ثمّ عقبت بعده وقلت إنّ القرآن استخدم لفظة الآية كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الرّوم/ 22]، فكون هذا الاختلاف آية عليّ أن أسعَ لكشف هذا الاختلاف، وفي الوقت نفسه احترم هذه الآيات، وهنا نفرّق بين السّنن التكوينيّة، والسّنن التّشريعيّة والمكتسبة، فالسّنن التّكوينيّة مطلقة، ولكن الكثير ممّا يدخل في التّشريعيّة والمكتسبة الظّرفيّة، ولهذا نتعامل مع بعض الرّوايات الّتي ذكرت كالقرشيّة، ورواية أمرت أن أقاتل النّاس، ومتى قيلت هذه اللّفظة، وما ظرفيّتها، ومثلا نظام الكفالة اليوم هو نوع من الاستعباد من وجه آخر، وعليه نقرأ هذه التّشريعات ولو نصوصا في ظرفيّتها، وهنا اتّفق معي أستاذنا النّوفلي، وأضاف بعض القوانين اليوم المنسجمة مع الماضي لروايات ظنيّة ولا تنسجم مع زماننا لا زالت مفعلة.
ثمّ عقّب الحبيب علوي الكاف أنّه في المذهب الشّافعيّ يؤمكم اقرؤكم، والقراءة هنا الفقه، فلمّا نقرأ الآخر أي نفقه الآخر، وأمّا رواية أمرت أن أقاتل النّاس، نعم يظهر من خلال ظاهرها التّعارض، ولكن توجد قواعد شرعيّة، منها الإعمال بين النّصوص أولى من الإهمال، والجمع أولى من التّرجيح، فإذا أمكن الجمع فهو أولى، واتّفق معه الأستاذ النّوفلي في قضيّة تصحيح المفاهيم كالقراءة.
وعقّب سالم المشهور أنّنا فهمنا سننيّة قراءة الآخر من حيث التّأصيل اللّغوي والاصطلاحي، ولكن من أين تستوحى، هل من الكون أو النّص، هل هي مسألة فطريّة أو تشريعيّة، وما تجلياتها، ومشكلتنا لمّا نتحدّث عن هذا الموضوع لا نقرأ سننيّة قراءة الآخر، وإنّما سننيّة قراءة الرّوايات، فكأننا نقرأ سننيّة قراءة البخاري أو مسلم أو أحمد أو الرّبيع، لكن العالم أكبر من هذا بكثير، أيضا هل نحن مختلفون لهذه الدّرجة حتى يسقط علينا مصطلح “الآخر”، نحن في المنظومة الدّينيّة الإسلاميّة على الأقل متشابهون جدّا، وعقّب الأستاذ النّوفلي ما قصده بالسّننيّة الجانب كوني قرآني، وهي واسعة ليست محصورة في عالمنا فقط، وما أشرت إليه من سلبيات روائيّة لأنّه يعوق هذه السّننيّة أو القراءة الكونيّة.
وقد سجلت هذه الحلقة، ونشرت في القناة اليوتيوبيّة أنس بتأريخ الثّاني من شهر أبريل 2019م، ثمّ قام الشّيخ عليّ المعشني بتوزيع الهدايا التّذكاريّة للمحاضر والمساهمين في إقامة الأمسية، كذلك أهدي لنا كتاب الأستاذ عبد القادر بن سالم الغساني: مقتطفات من يوميّاته، للدّكتور سالم بن عقيبل مقيبل، والدّكتور عبد القادر من المساهمين في بناء عمان الحديث خصوصا في سلك التّعليم، وكانت علاقته بالسّلطان قابوس [ت 2020م] علاقة كبيرة، كما كانت له علاقة سابقة مع السّلطان سعيد بن تيمور [ت 1972م]، وأرسل له كتبا ولابنه قابوس حينها، حتّى رقي عام 1991م إلى الدّرجة الخاصّة ومسمّى مستشار عام، وقد استمتعت بالكتاب كثيرا خصوصا في رحلة العودة.
ثمّ بعد المحاضرة كان عشاء خفيفا على عجل لأنّ موعد السّفر إلى مسقط قد اقترب، ولخبرة الأستاذين الحبيب فيصل المشهور والحبيب أحمد باعلوي تمّ إنهاء إجراءات السّفر الكترونيّا، فذهبنا إلى مطار صلالة، وودعنا الحبيب فيصل وأحمد، وحضر أيضا المطار الأستاذ عبد الله العليان والحبيب علوي الكاف، كما ودعنا الحبيب سالم وباقي الأخوة قبل ذلك في مكتبة دار الكتاب، فدخلنا قاعة تفتيش الحقائب ثمّ الطّائرة مباشرة، وفي الطّائرة كان حديثا مطوّلا مع النّوفلي وعن جهوده المعرفيّة ومعاناته بسبب استقلال فكره، كما استمتعت بكتاب الغسّاني كما أسلفت، لنصل مسقط قبل الواحدة ليلا، وبهذا نختم رحلتنا الظّفاريّة، والّتي كانت لثلاثة أيام فقط، لكنّها مليئة بجدول الزّيارات والمحادثات المعرفيّة والعلميّة وكشف المكان والتّأمل فيه.