*محمد بن رضا اللواتي
تروم هذه المقالة بأجزائها الثلاثة تقديم فكرة للقارئ الكريم تتعلق بالنتائج التي تمخضت عنها تحقيقات الفلاسفة الإلهيين في مجال المادة، وإثباتهم لوجود الحركة في عمق الطبيعة، واكتشافهم لحقيقة الزمان وتطور المادة وبلوغها مرحلة التجرد وما وراء الطبيعة، وكانت من جراء تلك التحقيقات أن مسائل النسبية الأولى والثانية قد أثبتوها في كتبهم بما فيها إمكانية كبس هذه الأرض وحملها في كيس متوسط الحجم[1]!
وكان الجزء الأول من هذه المقالة قد انتهى إلى وجود “استعداد” في كل متحول كأمر لا يقبل النقض بتاتا، ولنتناول الآن نتائج قبول هذا المبدأ البرهاني التالية:
1-لا بد لهذا الاستعداد من “حامل”[2]. ذلك لأنهم قد برهنوا على أن ذلك الاستعداد (القوة) ليس بوهم أو تصور ذهني فارغ، كلا! بل حقيقة واقعية ووجود. ومن جهة أخرى فالقوة أو القابلية وصف، فلا بد لها من موصوف.
إذن، (القوة) ولكي تكون حقيقة ووجودا، لا بد أن تكون متلبسة في كائن موجود ومتحقق، وهذا الكائن المتحقق الحامل لقابلية الصيرورة تطلق الفلسفة عليه “بالمادة”. النتيجة هي أن كل صيرورة وتحول وتغير يقع في الكون فلا بد أن يكون مسبوقا بقابلية يحتضنها موجود.
ومعنى ما مر: أن الذي يتنقل من القوة إلى الفعل، ويكون مصبا للصيرورة هو ذلك الحامل للقوة والاستعداد، أي “المادة” بمصطلحنا. وتالي ذلك، أن “كل حادث زماني له مادة سابقة عليه تحمل قوة وجوده”[3]. لنقرأ معا هذه الخلاصة كما كتبها الصدر: “الحركة ليست فناء الشيء فناء مطلقا ووجود شيء جديد، وإنما هي تطور الشيء في درجات الوجود، فيجب إذن أن تحتوي الحركة على وجود واحد مستمر منذ أن تنطلق إلى أن تتوقف. هذا الوجود هو الذي يتحرك، بمعنى أنه يتدرج ويثرى بصورة مستمرة، وكل درجة تعبر عن مرحلة من مراحل ذلك الوجود الواحد، وهذه المراحل إنما توجد بالحركة، فالشيء المتحرك أو الوجود المتطور لا يملكها قبل الحركة وإلا لما وجدت الحركة. بل هو في لحظة الانطلاق يتمثل لنا في قوى وامكانات، وبالحركة تستنفذ تلك الامكانات ويستبدل في كل درجة من درجات الحركة الامكان بالواقع والقوة بالفعلية”[4]
وبديهي أن المادة وما بها من قابليات للتحول، ليستا واقعيتان اثنتان. كلا! بل واقعية المادة ليست إلا القابلية للتحول. ذلك لأنه مر أن القابلية وصف، ولا بد له من موصوف. إذن القابلية محفوظة في هيئة “الفعلية” ومصب الصيرورة ليست إلا الفعليات الحاملة للاستعداد التغيير.
2.إن علاقة التحول أو الصيرورة هذه لا تقوم بين شيئين مستقلين في الوجود، بل تقوم بين مرحلتين لوجود واحد! ومعنى هذا: أولا: إن مادة الفعلية الفائتة هي نفس مادة الفعلية اللاحقة. ذلك، إن لم تكن كذلك، لترتب على هذا أن يسبقها إمكانها، والامكان وصف يتقوم بمادة، فلكانت مسبوقة بمادة، وهذه أيضا سيكون حالها كحال أختها، وهكذا فسوف نجد أننا نواجه سيلا لا نهائيا من الامكانات وحواملها! ومن الواضح أن المتناهي (المادة الجديدة على فرض) لا يمكن أن تكون له إمكانات لا نهائية! وثانيا: إن “الماضي” ليس ماضيا لشيء و “المستقبل” مستقبل لشيء آخر! في الواقع إنهما مرحلتين من مراحل وجود واحد. وهذا الذي يصحح أن يكون الماضي ماضيا لذلك الشيء المعين، والمستقبل أيضا مستقبله وليس مستقبلا لأمر غيره. إنه وجود واحد يتنقل، وبعبارة أدق وأصح، “يتحرك” من القوة إلى الفعل، بحيث عند حركته تغدو القوة ماضيه والفعل مستقبله والذي سيغدو بعد قليل ماضيه كذلك[5].
- إن بين “ب” (القوة) و “ج” (الفعل) صلة وجودية حميمة، يمكننا أيضا التعبير عنها برابطة تكوينية متينة. بحيث أن “ب” لها مستقبل وصورة ووجود تبحث عنه تكوينا وتتجه نحوه عبر الصيرورة تلك ولا يقر لها قرار إلا إذا بلغته وظفرت به.
وقد يبدو في أفق بعض الأذهان إشكالا على هذه النقطة تحديدا تتمثل في أن العلاقة الوجودية محتاجة إلى طرفين فعليين، بينما في مورد “القوة” و “الفعل” علاقة من طرف واحد! ذلك لأن القوة التي أضحت مصب الصيرورة، تتحرك نحو الفعلية التي ستتحقق لاحقا.
إن هذا يشبه أن نمسك بطرف الحبل، ونلقي الطرف الآخر لرجل سيظهر في المستقبل ليلقفه!
في الواقع ليس هكذا تماما.
فلو وضعنا قطعة من الخشب على نار مشتعلة، لتكونت فيه قابلية التحول إلى رماد. هذه القابلية ليس عدما محضا، لأنه سبق وأن أوضحنا أن العدم لا يفضي إلى شيء، ففاقد الشيء لا يعطيه! القابلية والقوة وجود، تمثله فعلية ما تسعى إلى بلوغ ما يناسب قابلياتها من فعلية جديدة. فالطرف الآخر للحبل وقع في يد شيء غير أنه يتعرض للصيرورة والتبدل والتغير[6].
الواقع، ما مر لم يكن إلا وصف للحركة التي تعني، في الفلسفة الأولى، خروج الشيء من القوة (القابليات) إلى الفعل تدريجيا[7]. لقد أضحت الحركة محطا لنظر الفلسفة الأولى التي تدرس الوجود، لأنها، أعني الحركة، نحو من أنحاء الوجود، فضلا عن كونها من المفاهيم الفلسفية التي يتم إدراكها بالعقل ولا يستطيع الحس أن يوجد عنها فكرة.
هذا الأمر قد يبدو غريبا للغاية، إلا أنه بالتأمل الكافي تتضح المسألة تماما. فما تقع على الحواس، مجموعة من التعاقبات للشيء الواحد. إنك إن وضعت ماء في قدر على نار، لأخذت الحرارة تشتد، وقصارى ما يكون للبصر التقاطه هو تعاقب درجات الحرارة بشكل تصاعدي. أما مفهوم تحرك الماء من درجات البرودة بفعل النار إلى درجات الحرارة العالية ومن ثم الغليان، فهو مفهوم انتزاعي يدركه العقل أول ما انتزعه من المشاهدات الوجدانية بالعلم الحضوري، وهذا هو سر شدة يقينية هذا المفهوم في العقل البشري.[8]
لنرجع إلى الحركة لأجل استجلاء حقيقتها أولا، وتحديد محلها بدقة أكبر مما قمنا به لحد الآن، ثانيا. بعد ذلك نقدم الرؤية التي تتبناها الفلسفة الالهية حول الوجود التجريدي باعتباره الغاية القصوى التي تسعى الحركة إلى بلوغها.
فلدينا إذن ثلاثة مسائل على طاولة التحقيق، وهذه هي الأولى:
خلافا “لزينون” الايلي الذي قدم مفهوما للحركة أسنده على أربعة من الأدلة لم يُكتب لها الصمود أمام فلسفة مواطنه “أرسطو”، حيث أراد أن يصور لنا أن الحركة أنها عبارة عن مجموعة هائلة من الوثبات والوقفات والسكنات تتعاقب بسرعة لتبدو لنا على هيئة حركة، تتبنى الفلسفة الالهية مفهوما مغايرا لتصور “زينون” عنها.
ولكن لماذا؟ وما هو المرجح لهذا المعنى دون المعنى الآخر؟
المرجح هو الزمان.
فعندما يخرج الشيء بنحو تدريجي، يحدث الزمان، بينما الوقفات المتعاقبة تتطلب حدوث مجموعة هائلة من “الآنات”. غير أن “الآن” ليس من الزمان، فهو طرفه، والطرف ليس من الشيء كما هو واضح. عندما يقول الرئيس لموظفيه “الآن” أو “حالا”، فمعنى ذلك “فورا”، ومن الجلي بمكان أن الوقوع الفوري خلاف التدريجي، فالوقوع الفوري لا يقع في “زمان”، لأنه يقع في طرفه. بينما وجود الزمان مؤشر قطعي على أن الحركة قد وقعت بالتدرج. ثمة شيء إذن يسيل باستمرار تدريجيا، وسيلانه يحقق له امتداد، ولامتداده مقدار الذي ليس غير الزمان.
وبموجب ذلك، فلدينا عدد هائل لا حصر لها من الأزمنة، إذ لكل حركة زمان هو مقدارها. هذا الزمان ليس منفصلا عن الحركة، بل هو توأم لها، ولا يمكن تصوره إلا مع الأشياء المتحركة، فهو “بُعد” رابع للأشياء المتصفة بالحركة. ولنصب ما مر في قالب البرهان على النحو التالي:
أ) الظواهر الكونية في تبدل وتغير، أي الحركة.
ب) الحركة تسيل على أجزاء لا تجتمع مع بعضها البعض إطلاقا، فالشيء عندما يطوي في حركته حالة ما، تنتفي هذه ومن المحال أن تجتمع مع الحالة الجديدة. وينطبق هذا على الحالة الجديدة، وهكذا دواليك.
ت) الشيء الذي يسيل فهو ذو امتداد، إذ عندما سال من “ب” وبلغ “ج” فقد امتد.
ث) ولكن لا امتداد إلا بمقدار.
النتيجة: الحركة امتداد ولامتدادها مقدار وهو الزمان.
وهاهنا برهان آخر على الأمر ذاته، وهو أن الحركة لا تكون إلا بتدرج الشيء وسيلانه من حال إلى حال.
أ) الزمان تمتاز هويته بأنه يتصرم. إذ من المحال أن تجتمع أجزاؤه أبدا، فالماضي يزول كلما أتى المستقبل، والمستقبل يغدو ماضيا مجددا لمستقبل آخر. إذن التصرم أدق وصف لظاهرة الزمان.
ب) لو لم يخرج الشيء من القوة إلى الفعل بالتدرج وقطع مرحلة تلو الأخرى تدريجيا لما كان الزمان متصرما.
ت) ولكن الزمان متصرم الطبيعة
ث)إذن الحركة تدريجية والزمان كمية متصلة لا تجتمع أجزاؤها تبعا للحركة.
وسوف نتناول “مصب الحركة” في الحلقة الثالثة من هذا المقال، عندها يستبين بجلاء أن الكون الذي نعيشه كنهر عظيم يلقي بما فيه من الكائنات من ضفة الحركة إلى يابسة التجرد. ليست الميتافيزيقيا إلا مرحلة أعلى تبلغها الحركة في صراطها الوجودي.
[1] مغنية، محمد جواد: فلسفة المبدأ والمعاد ص3 مقدمة المؤلف.
[2]الطباطبائي، محمد حسين: أصول الفلسفة والمذهب الواقعي. ج3ص13 تعيق مرتضى المطهري. ترجمة السيد عمار أبو رغيف.
[3] الاسعد، عبدالله: دروس في الحكمة الالهية ج2ص199. مصدر سابق
[4] الصدر، محمد باقر: فلسفتنا ص201.
[5] المطهري، مرتضى: شرح المنظومة: ص268. ترجمة: السيد عمار أبو رغيف.
[6]الطباطبائي، محمد حسين: أصول الفلسفة والمذهب الواقعي. ج3ص33 مصدر سابق
[7] مطهري، مرتضى: شرح المنظومة. ص272. مصدر سابق
[8] الطباطبائي، محمد حسين: نهاية الحكمة. ج2ص111. التعليق رقم 299 للمصباح، محمد تقي.
- كاتب وباحث عماني متخصص في الفلسفة الإسلامية