*محمد بن رضا اللواتي
منذ أزمنة موغلة في القدم، أطلق حكيم يُدعى طاليس” المالطي كلمة أخذت العصور بعده وإلى يومنا هذا ترددها، وهي: “إنك لا تستطيع أن تضع قدمك في نهر مرتين”، ذلك، لأن النهر ماؤه يكون قد تغير، وقدمك أيضا!
وليس هذا مثار للاستغراب، إطلاقا، فلقد انتبه بعض المحققين أن ثمة اكتشافات في شتى حقول العلم، كان القدماء قد أشاروا إليها تلميحا أو تصريحا. ومن أولئك المحققين اللذين تعقبوا علاقة الفيزياء الحديثة تحديدا بالحكمة المشرقية القديمة “فريتجوف كابرا (1075)” وذلك في كتابه “طريق الفيزياء” المنشور عام 1975، حيث عرض فيه التماثل المدهش بين الاستنتاجات المبنية على الفيزياء الحديثة مع تعاليم انواع الفلسفات التي وجدت منذ آلاف السنين[2].
وعلى أية حال، فلنعد إلى ما أضحى حقيقة لا تقبل الجدل، ألا وهي: أنه لا ثبات في الطبيعة على الاطلاق.
كتبت اليازجي يقول: “إن مكعبا من مادة النحاس يجهز إدراكنا البصري العادي بصورة المادة الصلبة، الكثيفة والمتجانسة والجامدة التي لا تتحرك. وفي الواقع، تهتز جزئيات النحاس الساكنة ظاهرها بنسبة ثمانية آلاف اهتزاز أو ذبذبة في الثانية، وتفصل بينها فراغات تتداخل فيها الجزئيات. ولو أننا توغلنا الى الاعماق لتحققنا من أن هذه الجزئيات تتشكل من ذرات توجد بينها مجالات فارغة، تتناسب مع الفراغات أو المجالات التي تفصل بين الاجرام الفضائية. وفي هذا المستوى، تتملكنا الدهشة! إذ نتيقن من أنه يمكننا وفق بعض الاعتبارات أن نقارن الذرات بأنظمة شمسية صغيرة تتشكل من نواة مركزية موجبة تدور حولها الكترونات كوكبية سالبة تنشطها سرعة دوارة. وتقدر شرعة دوران هذه الالكترونات حول النواة بسرعة تترواح بين مئتي الف وستة ملايين دورة في الثانية! وتتوسع هذه الحركات السريعة فوق تلك الالكترونات التي تقدم بيانها. وعندما نتوغل أكثر فأكثر، نصل الى النواة التي تشتمل على عالم غريب، وتعني نيرترونات محايدة كهربائيا، وبروتونات موجبة، وبيونات أو مزونات هي دقائق كهربائية لها كتلة وسطى بين الالكترون والبروتون. وعند هذا الحد، تصبح الحركة مذهلة، وفي كل لحظة تكون البروتونات والنيوترونات موضوع تبادلات متداخلة خارقة، مليار مليار مرة! ولا شك أن النويات الذرية للأجسام الثقيلة ستنفجر حالا في حال انعدام هذا السياق او الاجراء. ومنذ عام 1974 تم اكتشاف النقاب عن طبيعة البروتون. فقد أقام الفيزيائي الشهير هوف حامل جائزة ماكس بلانك في الفيزياء الدليل على بنية البروتون المعقدة. وتتصف المكونات ما تحت الكمية فيما بينها بسرعة الحركة وشدتها. وبتبادلات أوسع من مثيلاتها الحاصلة بين البروتونات والنيوترونات من مجرد تداخل البيونات. وهكذا، نتخلى عن الفكرة التي تشير الى السكون الظاهري لقطعة النحاس. يمكننا تلخيص ما سبق وذكرنا في إجابة العالم إداور لاروا عن السؤال: ماالكون؟ أجاب: “الكون صرح جبار يتألف من تنضد طبقات اهتزازية. الكون كل معقد من الحركات البطيئة المستقرة فوق حركات أكثر سرعة، فأكثر سرعة، حتى نصل الى العمق. وفي ضوء هذا الاكتشاف نقتفي أثر حقيقة دائمة، غير مؤقتة، نعجز عن الامساك بها، لأنها لم تعد هي ذاتها، وأصبحت حضورا مبدعا ومتجددا على الدوام”[3].
المحصلة التي انتهينا إليها معا هي: “الحركة والايقاع خاصتان أساسيتان للمادة، وأن المادة كلها، مادة الأرض أو مادة الفضاء الخارجي، متضمنة في رقص كوني مستمر”[4]. أما قعر المادة، فلم يجدوا عندها الا هيئة ديناميكية، تتحول الواحدة منها على نحو متواصل الى اخرى، أي الطاقة! من هنا، فقد ذهب بعضهم الى أن ثمة “حركة كلية شاملة” تنبعان من نظام آخر أولي، يصنع هذا الكون الذي لا يعدو أمام ذلك النظام إلا “هولوغراف” لا غير[5].
وسواء أتفقنا مع النتائج التي انتهوا إليها أم تحفظنا عليها، فلن يسعنا إطلاقا التشكيك في أن الحركة هي الهوية الأعمق لهذا العالم.
والسؤال هنا هو:
ما موقف الفلسفة الإلهية مما استعرضناه من وقوع الحركة في عمق الطبيعة؟
يجهل من لا إطلاع له على التحقيقات في هذا الميدان، أن الفلسفة الالهية – وحديثنا عنها فحسب – قد تبنت وقوع الحركة في عمق العالم وهويته الأساسية، مستندة على منهج التحليل العقلي للظاهرة المادية، وقد خرجت من تلك التحليلات بنتيجتين مذهلتين حقا هما:
أولا: إن الحركة بصفتها حالة وجودية تؤسس لبروز ظاهرة الزمان.
ثانيا: إن الحركة تسوق المادة نحو التجرد.
وسوف نعرض للقارئ كيف أوصل التحليل العقلي الرصين الفلاسفة المتألهين إلى النتيجتين المار ذكرهما:
عندما تدس يد البستاني بذور الورد في التراب، فإن هذه البذور، بالسقيا وبقية العوامل المحيطة بها، تبدأ بالنمو وتغير هيئتها السابقة إلى هيئة وصورة جديدة نابتة، إلى أن تتخذ لنفسها صورة الشجرة. أمام هذه الظاهرة التي لم تكن فكانت، يضطرنا تفكيرنا إلى اعتناق النتائج التالية:
أولا: إن البذرة، وقبل أن تستحيل إلى فسيلة ثم شجرة، لا بد وأن تكون تحمل في طيات وجودها “إمكانية” و “استعدادا” للتحول، وإلا لاستحال تحولها هذا. ذلك لأن قبول نتيجة مفادها أن الأشياء تتحول إلى أخرى دون أن تكون تحمل إمكانية ذلك لنتيجة تتأرجح على خط التناقض! لنقم أيها القارئ بهذه المحاكمة العقلية السهلة لما لدينا من الافتراضات:
إن فرضنا أن “ب” لا تملك امكانية التحول إلى “ج”، لكان معنى ذلك أن “ب” ضرورية الوجود على هذا النسق، أي النسق الذي لا يساعدها على التحول إلى “ج”، وتالي ذلك أن بروز “ج” ممتنع قطعا! ولكن “ب” تحولت فعلا إلى “ج”، إذن، الامتناع غير متحقق، فإمكان التحول هو المتحقق.
هذه المكانية وذلك الاستعداد نحو من انحاء الوجود والتحقق وليس وهما أو تصورا خاليا عن الواقعية جزما، وإلا لما كان هنالك، حقيقة، ثمة إمكانية. وسوف نطلق على هذه القابلية الواقعية والوجودية، والتي لولاها لما أمكن التحول، مصطلح “القوة”، بينما نخصص مصطلح “الفعل” بالمرحلة التي بلغتها البذرة في مسيرتها التحولية إلى شجرة.
إذن، “القوة” و “الفعل” درجتان من درجات الوجود. والمادة عندما تتحول، فإنها تسلك طريقا من “القوة” إلى “الفعلية”، وفي هذا الطريق عشرات، وربما مئات أو ألوفا، من الاستعدادات تكون قد تبدلت إلى فعليات. ثمة قاعدة تتبناها الفلسفة الإلهية موجزها: “كل حادث زماني فهو مسبوق الوجود بقوة”[6].
ثانيا: لهذا التحول قالب لا يخرج عنه. فبذرة شجرة الورد لا تستحيل إلى فرس! كما وأن بيضة النعامة لا يمكنها أن تفقس عن إنسان! إذن ثمة “قانون” يحفظ عملية “الصيرورة” هذه، بموجبه، لا يفضي أي شيء إلى أي شيء! كلا، وإنما الشيء يفضي إلى ما يتسق مع إستعداده، المتناسب مع وجوده. وبعبارة أوضح: الاستعداد الكامن في الشيء هو من نوعه ومنسجم مع طبيعته وليس أجنبيا عنه، لذا فلا ينتجه عن أي شيء.
وإذا اعترض معترض، بأن التمر كما يقبل أن يعود إلى التراب لينمو مجددا، فإنه يقبل أيضا أن يتحول إلى غذاء ثم إنسان، فجوابنا على هذا الاعتراض هو: في الواقع، إن عملية الهضم توفر في التمر قابليات لتلقي صورا متعددة منها الصورة الانسانية، ونقطتنا هي هذه تحديدا وهي أن الصيرورة تقع على الامكانات المتاحة وليست تنتج ما لا تتوافق معه الامكانات.
وإذا أردنا لتعبيرنا أن يكون أدق مما مر، فينبغي أن نصيغه على النحو التالي:
ثمة عدد هائل من التحولات متاحة في طريق الصيرورة، منها التي تتوافق مباشرة مع حالة الشيء المتحول، ونسميها بالصيرورة القريبة، ومنها التي لا تتوافق مباشرة مع حالة الشيء المتحول، ولكن بإمكانها قطع طريق أبعد وأعقد لكي تتهيء لكسب امكانات أخرى جديدة تؤهلها لصور مختلفة.
فلو وضعنا بين يدي البستاني حبة تمرة، ثم طلبنا منه أن ينبت منها نخلة التمر، لما كلفه الطلب إلا نزع النواة ودسها في التراب وتوفير العوامل الأخرى لنموها. أما إذا طلبنا منه أن يحول التمرة إلى إنسان، لكان عليه أن يهضم التمرة ويجعلها غذاء له، حتى تمر بعمليات أخرى مختلفة وتتهيأ لقبول الاستعداد للتحول إلى مني فنطفة فجنين فإنسان.
هذه الحقيقة، وهي وجود استعداد يسبق التحول، وجودا حقيقيا، ويعمل على منح التحول انسجاما معه، تفضي إلى ثلاثة نتائج نعود لبيانها في الحلقة الثانية من هذا الموضوع.
[1] للأمانة العلمية: هذا المصطلح “الزمان الجوهري” استعرناه من الطباطبائي الذي أطلقه في “أصول الفلسفة” لأول مرة في ج3ص
[2] اليازجي، ندرة: دراسات في فلسفة المادة والروح: الاعمال الكاملة: المجلد الثالث ص36.
[3] المصدر السابق ج3ص216.
[4] المصدر السابق ج3ص30.
[5] المصدر السابق ج3ص90 و91.
[6] الأسعد، عبدالله: دروس في الحكمة الالهية، شرح بداية الحكمة: ج2ص199.
كاتب وباحث عماني متخصص في الفلسفة الإسلامية *