كتاب “التصوف في عمان – مدارسة مع فضيلة الشيخ أحمد بن سعود السيابي”
إعداد: الباحث خميس بن راشد العدوي
الكاتب: صالح البلوشي
في هذا الكتاب صغير الحجم، يتكون من 64 صفحة من القطع الصغير، يتدارس الباحث العماني خميس بن راشد العدوي مع فضيلة الشيخ أحمد بن سعود السيابي “التصوف في عمان”، من حيث نشأته، وأبرز رموزه، ومكوناته.
يميل السيابي إلى التعريف اليوناني للتصوف، الذي يقول: بأنه “مأخوذ من كلمة يونانية هي”سوفست”، أطلقها اليونانيون على زهاد الهند وعبادهم، وهم مجموعة من الزهاد الذين كان لديهم التأمل والخلوة والانعزال وممارسة عبادات معينة وفقاً لدياناتهم”(1) وقد انتقد الشيخ السيابي هذا النوع من التصوف، ووصفه بأنه دخيل على الإسلام من ديانات سابقة ولم يشرع للمسلمين، ورَدّ على الذين يحتجون على انعزال النبي -عليه الصلاة والسلام- قبل النبوة وتعبده في غار حراء بأن ذلك كان قبل النبوة فـ” لعله كان يتأمل بحسب الديانات السابقة كالديانة الإبراهيمية التي وجد بعض ملامحها عند قومه في قريش، وأما بعد أن أكرمه الله بالنبوة لم يمارس التحنث ولا الخلوة ولا الانعزال، وبالعكس شنّ حملة على الانعزال عن الحياة، ونهى عن الرهبانية قائلا: “لا رهبانية في الإسلام”.
وقال السيابي: أنه لا يعدُّ التصوف تيارا؛ وإنما “سلوكا جماعيا عند الآخرين”، ويرى بأنه كان بالنسبة للإسلام سلوكا فرديا، ولكن عندما نشأت الطرق الصوفية في القرن السادس الهجري؛ تحول هذا السلوك الفردي إلى طقوس معينة، وكان ذلك ابتداء من عبدالقادر الجيلاني في القرن السادس الهجري ثم انتقلت إلى الطرق الصوفية الأخرى، ووصف التصوف بأنه سني المنشأ، حيث نشأ في صفوف أهل السنة، ثم انتقل –كما يرى– إلى الشيعة في عهد نصير الدين الطوسي حوالي القرن السادس الهجري، ووصف الطوسي بأنه كان متأثرا بالفيلسوف الإسلامي ابن سينا “وأخذ من كتبه وعلق عليها، فدخل التصوف إلى المذهب الشيعي”.
وأعتقد أن فضيلة الشيخ السيابي يقصد من التصوف الشيعي العرفان، ولكنه يختلف عن التصوف؛ لأنه فردي ولا يتضمن ممارسات أو طقوس جماعية مثل التصوف، كما لا توجد طرق طقوسية في العرفان، وقد قسّم السيد كمال الحيدري العرفان إلى قسمين: القسم الأول: العرفان النظري: وهو فرع من فروع المعرفة الإنسانية التي تحاول أن تعطي تفسيرا كاملا عن الوجود ونظامه وتجلياته، والقسم الثاني: العرفان العملي: وهو الذي يتعهد تفسير وبيان مقامات العارفين ودرجات السالكين إلى القرب الإلهي بقدم المجاهدة والتصفية والتزكية”(2)، ويرى الحيدري أن الشيخ محي الدين بن عربي يقف على رأس مدرسة العرفان النظري؛ “لأنه استطاع أن يجعل هذا اللون من المعرفة علما مستقلا له موضوع ومسائل ومبادئ، وبذلك امتاز هذا الفرع من المعرفة عن باقي الفروع، وكل من جاء بعده من العرفاء فإنه كان يدور في الدائرة ذاتها التي وضع أسسها هذا العارف المحقق” (3)، أما عند الشيعة فإن الشيخ العارف حيدر الآملي الذي يعدّ من علماء الشيعة في القرن الثامن الهجري، يعد أهم امتداد شيعي لفكر ابن عربي وتخليده في العرفان الشيعي، حيث آثر الزهد والتقشف في الدنيا، وله مؤلفات كثيرة في العرفان، أما علاقة التصوف بالتشيع فإن الشيعة الإمامية لا يعترفون بالتصوف، بل يعتبرونه من البدع المنكرة في الدين، ولأئمتهم وعلمائهم أقوال كثيرة تذم التصوف وأهله، حيث وصفهم الشيخ المفيد (336-413هـ) بأنهم: “هم أصحاب الإباحة والقول بالحلول، وهم قوم ملاحدة وزنادقة، يموهون بمظاهرة كل فرقة بدينهم، ويدعون للحلاج الأباطيل، ويجرون في ذلك مجرى المجوس في دعواهم لزرادشت المعجزات، ومجرى النصارى في دعواهم لرهبانهم الآيات والبينات”(4) ويقول الشيخ محمد باقر المجلسي (1037- 1111هـ): “بل يحرفون أصول الدين، ويقولون بوحدة الوجود، والمشهور في هذا الزمان، المسموع من مشائخهم، كفر بالله العظيم، ويقولون بالجبر وسقوط العبادات، وغيرها من الأصول الفاسدة السخيفة”(5).
وقد حاول الأستاذ كامل مصطفى الشيبي في كتابيه “الصلة بين التصوف والتشيع” و “النزعات الصوفية والفكر الشيعي” الربط بين التصوف والتشيع، وردّ عليه العالم الشيعي السيد هاشم معروف الحسني في كتاب “بين التصوف والتشيع”.
وأما الفيلسوف نصير الدين الطوسي فلم يذكر أحد من علماء الشيعة أنه كان صوفيا، نعم.. للرجل مصنفات في الأخلاق مثل استاذه الفيلسوف ابن سينا ولكن ذلك لا يعني أنه كان صوفيا.
ومن خلال ملاحظاتي البسيطة حول العلاقة بين التصوف والتشيع، أعتقد أن الرابط الوحيد الذي يجمع بينهما هو التعلق بأهل البيت ومودتهم، وإقامة الاحتفالات الدينية في ذكرى مواليدهم، وقد استغل كثير من دعاة الشيعة هذه العلاقة لدعوة الصوفية إلى التشيع.
ويرى الشيخ السيابي أن الناس تتجه إلى التصوف عندما يشعرون بإحباط الواقع الاجتماعي والاتجاه إلى الانعزال، وهذا “يتعارض مع التوجه الحضاري والعمراني الذي أراده الله سبحانه وتعالى من الإنسان في هذه الحياة”؛ ولكن من يقرأ تاريخ التصوف في الإسلام يلاحظ أن كثيرا من الصوفية لم يلجأوا إلى التصوف نتيجة الإحباط أو الفقر؛ وإنما لأسباب مختلفة، منها: طلب التقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- ونيل مغفرته ورضوانه، وكان كثيرا منهم من الأغنياء وميسوري الحال، بل أن الذين استطاعوا تكوين إمبراطورية قوية في إيران في القرن السادس عشر الهجري كانوا من الصوفية، وأقصد هنا الصفويين، ويتبعون طريقة شيخهم صفي الدين الأردبيلي، ولكن ذلك لا ينفي أن كثيرا من الذين لجأوا إلى التصوف كان نتيجة شعورهم بالإحباط واليأس من تغيير الاوضاع في مجتمعاتهم، ولكنه بطبيعة الحال ليس السبب الوحيد.
وبعد هذا الاستعراض لتاريخ ومذاهب التصوف ينتقل الشيخ السيابي إلى المحور الرئيس في الكتاب وهو التصوف في عمان، وقال بأن الإباضية قاوموا التصوف إلى بداية القرن العاشر الهجري” ثم بدأوا يأخذون منه بعض الملامح والسمات في التعبير، وكتابة الأوفاق والطلاسم، وليس كممارسات سلوكية، إلى عهد الشيخ أبي نبهان جاعد بن خميس في القرن الثاني عشر الهجري”، وذكر السيابي بعض الأسباب في دخول التصوف إلى عمان وتحديدا إلى الإباضية، منها:
- تجنيد الإمام أحمد بن سعيد جنودا من النوبة، التي تشتهر بطرقها الصوفية المتعددة.
- واستعانته كذلك بأناس من بلوشستان، وقال بأن هناك “طرقا صوفية كثيرة، والناس متشبثون ومتمسكون بها”.
وقال بأن دخول النوبة والبلوش إلى عمان كان له تأثير في دخول التصوف إليها إلى درجة أن عالما كبيرا، مثل: أبو نبهان جاعد بن خميس الخروصي تبنى الفكر الصوفي، الفكري وليس الطرقي، ثم رجع الشيخ السيابي مرة أخرى إلى رأيه حول لجوء الناس إلى التصوف نتيجة للإحباط، وقال بأنه لا يستبعد أن يكون تبني الشيح أبو نبهان التصوف نتيجة شعوره بالإحباط “واستنتج ذلك” من بيت له في القصيدة التي نظمها هو ورفيقه الشيخ سعيد بن محمد الغشري الخروصي، بحيث يكون الشطر الأول من كل بيت من نظم الشيخ أبو نبهان، والشطر الثاني يتمه الشاعر سعيد الغشري، ففي آخر القصيدة لما ذكر أئمة بني خروص، والتي مطلعها:
أئمتنا لهم كل الفضائل *** وأن لهم على الناس الطوائل
قالا بيتا في آخر القصيدة:
فصيرنا الزمان ولا عتاب*** رعايا بعدما قدنا الجحافل
ويعلق السيابي على البيت قائلا: “هذا إحساس منه بالتهميش في الحياة، فأنا أربط دائما التصوف سواء كان في سلوكه الفكري أو في ممارساته الطقوسية بالإحباط في الحياة”.
ثم تحدث الشيخ السيابي عن الشيخ ناصر بن أبي نبهان ووصفه بأنه ممن تأثر بالتصوف، ورأى أن من أسباب ذلك ذهابه إلى شرق أفريقيا والتقاءه بأناس من غير العمانيين يمارسون التصوف الطرقي، ولكنه استطرد بأن تصوف الشيخ ناصر بن أبي نبهان لم يكن تصوفا طرقيا؛ وإنما حاول عقلنة التصوف وربطه بالفلسفة والعقل؛ لأنه كان يحترم الفلسفة والفلاسفة ويقرأ لهم وينقل عنهم، وربط السيابي تصوف الشيخ ناصر بالإحباط أيضا، وقد أيد كلامه ببيتين قالهما الشيخ ناصر، وهما:
معيشتنا خبز لغالب قوتنا *** وماء وليمون وملح وقاشع
فإن حصلت مع صحة الجسم*** والتقى فيا حبذا هذا بما هو قانع
وهنا تدخل الشيخ خميس العدوي مؤيدا رأي السيابي حيث عقب على كلامه قائلاً: “وخاصة حصلت بينه وبين الدولة القائمة جفوة، لكن عندما جاء إلى مسقط بدأ مرحلة عقلنة التصوف في هذه الفترة، خاصة عندما دخل في كنف السلطان سعيد بن سلطان وانتقل إلى زنجبار، تغيرت نظرته من التصوف البسيط الذي ينشد الخلاص من خلال الطلمسات والأسرار إلى محاولة فلسفة وعقلنة الفكر الصوفي”.
ثم تطرق الشيخ السيابي إلى تجربة الشيخ المحقق سعيد بن خلفان الخليلي مع التصوف، وأكد بأن الخليلي مرّ أيضا بمرحلة محبطة عندما ذهب -في فترة الشباب- إلى الرستاق التي كانت تحت حكم السيد حمود بن عزان بن قيس بن الإمام أحمد بن سعيد الذي سلمهم المنطقة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فدعا إلى الإمامة ولكن لم يستجب له أحد، ولكنه بعد عام واحد قلب عليهم السيد حمود ظهر المجن وأخرجهم من الرستاق، فذهب إلى ولاية بوشر، واشتغل بعلم الأسرار والأوفاق ” ثم لما تهيأ للشيخ سعيد بن خلفان بحكم فكره المذهبي وأطروحاته السياسية في المذهب بأن يقوم مرة ثانية بأمر الإمامة، اشتغل بإنشاء دولة الإمام عزان بن قيس البوسعيدي “.
ثم انتقل الشيخ السيابي للحديث عن تجربة أبو مسلم البهلاني الذي عدّه الشيخ العدوي في مداخلته بشاعر التصوف العماني وخاتمته، وقال بأن البهلاني تأثر بالشيخ الخليلي؛ لأنه تربى على مدرسته وعاشا زميلين وصديقين معا في وادي محرم بعمان، مؤكداً بأن فكر التصوف المرتبط بالسلوك وليس بالممارسة الطقوسية أصبح الفكر المهيمن في عمان في تلك الفترة ” فأصبح الجميع يتحدث بمفاهيم تصوفية، فالأشعار والأدبيات جاءت في هذا الإطار، والعلماء كانوا يتحدثون بهذا المنطق، وكثرت الخلوات” ، وضرب السيابي مثالا بمساجد العبَاد في نزوى فهي “جاءت في هذه الفترة، لأننا لم نكن نسمع قبل ذلك عن عابد يذهب ليعبد الله في جبل”، ولكن خميس العدوي في هامش الكتاب كان لديه وجهة نظر أخرى حيث عقًب على كلام السيابي بالقول: “والذي وجدته أن مساجد العباد أقدم من هذه الفترة، فقد نشأت في بهلا منذ الدولة النبهانية، حيث جاء ذكرها في الوثائق التي سبقت الدولة اليعربية كـ (منهاج العدل) لعمر بن سعيد المعدي البهلوي، وقد حققت في هذه المسألة في أكثر من موضع، منها: (النصوص المتحفية) للمتحف الوطني العماني، وبحثي ( المكانة العلمية والاجتماعية) للشيخة عائشة بنت راشد الريامية”.
وفي خاتمة الكتاب يشرح الشيخ السيابي الانقلاب على التصوف في عمان، فبعد العهد الزاهر للتصوف في عمان اعتبارا من الشيخ أبو نبهان ومرورا بابنه الشيخ ناصر ثم الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي وأخيرا الشيخ أبو مسلم البهلاني استطاع الشيخ نور الدين السالمي أن ينقلب على التصوف ويرد عليه بقوة كونه يقوم على أوهام وخرافات لا أساس لها في الشريعة، التي لا يمكن أن تأخذ بمثل هذه الممارسات والسلوكيات الخاطئة، ويفسر السيابي أسباب هذا الانقلاب أن الشيخ السالمي كان متأثرا بادئ الأمر بالفكر الصوفي “لأنه كان يعيش مع الشيخ راشد بن سيف اللمكي في الرستاق، وذهب إلى الشيخ محمد بن سيف السيفي في نزوى لكي يمارس الخلوة الانعزالية الرياضية ليكون عالما” إلا أن اطلاع السالمي لاحقا على المعارف والعلوم المختلفة غيّر رأيه في التصوف ودعا إلى نبذ هذا الفكر الذي اعتبره دخيلا على الشريعة.
ولكن، هل انتهى التصوف في عمان بانقلاب السالمي؟، بكل تأكيد فإن التصوف ما زال موجودا عند كثير من أهل السنة في مختلف محافظات السلطنة، خاصة في محافظة ظفار وشمال الباطنة، وهناك إقبال على حضور الجلسات الصوفية من كثير من الإباضية وحتى الشيعة، ولكن هل له وجود عند علماء الإباضية؟ أعتقد أن الموضوع بحاجة إلى بحث.
المصادر:
1-الكلام بين قوسين “” هو لفضيلة الشيخ السيابي، ولم أحل إلى الصفحات لسهولة الرجوع إليها بسبب صغر حجم الكتاب.
2-كمال الحيدري، مدخل إلى مناهج المعرفة عند الإسلاميين، الطبعة الأولى، قم، إيران، 1426 هـ، ص 225، و236.
3-ن . م238
4-محمد بن النعمان المفيد، تصحيح الاعتقاد ، تحقيق هبة الدين الشهرستاني، منشورات الرضي ، ، قم إيران، ، 1363 هـ ، ص
5-محمد باقر المجلسي, العقائد، تحقيق حسين دركاهي، مؤسسة الهدى للنشر والتوزيع ، طهران، 1420هـ، ص 28.