عبدالرحيم بن خميس العدوي
“ثقافة الناس هي خط الدفاع الأول ضد الاستبداد، الأمة المثقفة هي الأمة الحرة” مقولة تنسب إلى ثالث رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية توماس جيفرسون (ت:1826م)، والمعروف شغفه بقراءة الكتب. ورغم أننا لا نعلم كيف كان توماس جيفرسون يفسر مفردة “الثقافة” في زمانه، إلا أنه يمكننا الجزم بأن ثقافة الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت الأكثر لمعاناً في العالم.
استلهم السلطان الراحل قابوس بن سعيد طيب الله ثراه هذه الفكرة خلال مرحلة التأسيس، فأدرك جلالته أهمية الثقافة والمثقفين، والدور الجوهري الذي تلعبه الثقافة عالمياً في إحداث التغيير بين الشعوب، فأصدر توجيهاته بصون حرية التعبير وعدم مصادرتها، مؤكداً أن حرية التعبير وعدم احتكارها هي رسالة عميقة تهدف إلى حماية الثقافة ومثقفيها لدى الأمة العمانية.
لقد أدرك جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه أهمية ترسيخ مفهوم الثقافة بكونها عنصراً أساسياً في بناء الأمة العمانية، فاختار السلطان هيثم بن طارق حفظه الله وزيراً للتراث والثقافة، فترةً امتدت حوالي عقدين من الزمن. كان الاختيار استشرافاً للمستقبل، حيث رأى السلطان الراحل في السلطان هيثم الشخص المناسب الذي يمكنه أن يقود ثقافة الأمة العمانية ومثقفيها إلى الطموح والريادة.
بعد تولي جلالة السلطان هيثم الحكم عمل على وضع رؤية شاملة، تدمج بين طموح المثقف العماني في تلبية متطلبات العصر الحديث وحرية التعبير التي كفلها النظام الأساسي للدولة، ويمكن تقسيم إنجازاته الثقافية إلى مرحلتين بارزتين:
مرحلة إنجازات السلطان هيثم على رأس وزارة الثقافة والتراث:
عمل جلالة السلطان هيثم بن طارق على دعم البعثات الأثرية العالمية لتعمل في البيئة العمانية، حيث تعد عمان إحدى أهم المناطق العالمية لفهم ودراسة الإنسان القديم. وقد وفر لهذه البعثات ما تحتاجه من تسهيلات ومرافق، مقابل تقديم بحوث علمية تسهم في إثراء الوسط العلمي. وقد نتج عن ذلك عدد من الدراسات المنشورة بلغات متعددة، تناولت المكتشفات الثمينة التي عثر عليها في مناطق متفرقة في عمان.
أكدت هذه البحوث على أن عمان هي إحدى أهم محطات الربط العالمي في العالم القديم. من أبرز هذه البحوث المعمقة، كتاب “ظلال الأسلاف”، لسيرج كلوزيو وموريسيو توزي، جاب المؤلفان عمان باحثين عن إرث المبدع العماني الذي شق الأفلاج، وهندس المدن، وشيد المعابد، وصف القبور، وجاب البحار.
وتتويجاً لنجاح هذا العمل قال صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق في مقدمته للكتاب: “يجسد هذا الكتاب ترجمة لإيماننا العميق بأهمية التراث الثقافي العماني المكتنز بتاريخ الفكر واللغة والمعتقدات والمعارف وما ترتب عليها من صلات حضارية، ولا غرو في ذلك فقد وثق هذا الكتاب أحد أهم أوجه التراث الإنساني ألا وهو التراث الأثري بكل مكنوناته”.
مثلت “الموسوعة العمانية” مشروعاً طموحاً جمع فيه السلطان هيثم علماء ومثقفي عُمان لتدوين تاريخها الممتد آلاف السنين، وقد أسهم هذا المشروع في توثيق الهوية العمانية ونشرها عالمياً، وخرج العمل في أحد عشر مجلداً بعد جهد امتد ثمانية أعوام، حظي المشروع الوطني بردود فعل إيجابية توازي الجهد المبذول في إعداد الموسوعة.
عنايته بالأندية الثقافية والمكتبات الأهلية والمراكز العلمية ودعمها إحدى الجهود الملحوظة لجلالته حفظه الله، ومما علمته من والدي خميس بن راشد العدوي أن جلالة السلطان هيثم يدعم، ولا يزال، المشاريع التي تفيد الإنسان العماني. وهذا يدل على حرص جلالته في دفع التنمية الوطنية إلى الأمام دائماً. وإننا جميعاً علينا التكاتف، كلٌ حسب قدرته، للحفاظ على هذا الوطن بقوة العلم.
مرحلة إنجازات السلطان هيثم وهو على سدة الحكم:
جاءت المرحلة الثانية استكمالاً للمرحلة الأولى بعد عمل دؤوب قام به جلالته عندما كان على رأس وزارة الثقافة والتراث، وفي هذه المرحلة الجديدة أصبحت الرؤية الثقافية جزءاً من رؤية عمان 2040م، إذ وضعت الثقافة في صلب استراتيجياتها التنموية، وقد تجلت هذه الرؤية في وضع “الاستراتيجية الثقافية 2021-2024م”، وفي دعم الإبداع الثقافي، وتعزيز الهوية الوطنية، والانفتاح على الثقافات الأخرى مع الحفاظ على الأصالة العمانية.
شهدت المرحلة الجديدة كذلك وضع حجر الأساس لمجمع عمان الثقافي، الذي يُعد مشروعاً رائداً سيحقق نقلة نوعية على المستوى التنظيمي والثقافي في سلطنة عمان. يتميز المجمع بكونه يضم تحت سقفه أغلب المؤسسات الثقافية البارزة في عمان، مما يعزز تكامل الجهود الثقافية والفنية، ويوفر بيئة موحدة لإدارة الأنشطة الثقافية.
إن ما حققته عُمان في الجانب الثقافي في عهد السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه لا يقتصر على الإنجازات المادية.. بل هو استثمار في الإنسان وتاريخه العريق الضارب في أعماق الزمن. وكل هذه البنية الصلبة التي تأسست على مدار 54 عاماً تجعلنا أمام مسؤولية عظيمة تدفعنا إلى السعي الجاد للحفاظ على هذه البلد العظيم ومنجزاته الثقافية والحضارية.