عبدالرحيم خميس العدوي
عندما أتأمل في الفخار يأخذني الخيال إلى تلك العجلة التي تساعد يد الصانع على تكوير آنيته، وهو أشبه بالكون الذي يدور حول مركزه السرمدي، حيث تتوزع التفاصيل في مكانها الصحيح كما يريد خالقها. الفخار هو الخبرة التي تكمن في مزج المكونات مشكلةً عملية كيميائية لتخرج الآنية نابضة بالحياة.
المقال يتتبع مسار الفخار التاريخي، بالرغم من تباين النظريات والفرضيات حول تاريخية أصله. حتى الآن، لم أتوصل إلى تاريخ محدد يشير إلى بداية الفخار، ويعود ذلك إلى الاكتشافات المستمرة التي يقوم بها علماء الآثار في مجال التنقيب. ولكن يمكننا رسم خط زمني تقريبي حول أصل الفخار استناداً إلى ما اكتشفه علماء الآثار من خلال كشوفاتهم المتفرقة حول العالم.
تكشف لنا التنقيبات الأثرية أن أول استعمال للفخار كان في موقع مورافيا بجمهورية التشيك، فقد عثر على تمثال صغير يُدعى بـ”فينوس دولني”، وحسب الدراسات يعود إلى 29000 عام قبل الميلاد. أثار التمثال دهشة علماء الآثار، إذ يعتبر دقيق الصنع وفائق الجمال، ما يطرح تساؤلات جديدة حول مسار الإنسان القديم ككل.
يذكر سعيد بن عبدالله العدوي في كتابه “فخار بهلا”: “أن اكتشافاً في الصين، وتحديداً في أحد كهوف مقاطعة جيانغشي عثر على بقايا أواني فخارية مكسورة بها آثار طبخ ويقدر عمرها حوالي 19 إلى 20 ألف سنة” هذه التواريخ الموغلة في القدم تدفعنا للتأمل في عبقرية الإنسان القديم، وهو مما يعيد إلى الساحة أسئلة جوهرية حول متى عرف الإنسان الصناعة؟ وهل سبقت الصناعة الزراعة أم العكس؟
بعد الاكتشاف الصيني، يظهر لنا فراغ زمني لم يُعثر فيه على أدوات فخارية. قد لا يكون السبب عدم وجود فخار، إنما هناك حاجة لمزيد من التنقيب. بعد هذه الفترة؛ كشفت التنقيبات عن فخاريات جديدة عثر عليها في حضارة وادي الرافدين، متزامنة مع اكتشاف الزراعة، حيث ظهرت الأواني المستخدمة لتخزين المواد الغذائية، والتي يقدر عمرها بحوالي 10000 عام. ثم توالت الاكتشافات الأثرية، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط.
منذ الألفية الخامسة قبل الميلاد، شهدت صناعة الفخار زخماً متصاعداً. فقد اكتشفت مئات المواقع تحتوي على قطع فخارية، حيث بدأ الفخار بالانتشار بشكل ملحوظ في أوروبا والصين وشمال إفريقيا. وربما كان لاختراع العجلة تأثير جوهري في هذا الانتشار الواسع، إذ مثل نقلة نوعية في حياة الإنسان، ليس في مجال الصناعة فقط، بل في مجالات التنقل والزراعة أيضاً.
أما في سلطنة عُمان، فقد وجُدت العديد من الأواني الفخارية، وبعضها يعود إلى الألفية الخامسة قبل الميلاد، متزامنة مع اختراع العجلة. منذ ذلك الحين، استمرت المعثورات الفخارية بالظهور حتى العهد المتأخر في عمان. وتشتهر بعض المدن العمانية بصناعة الفخار أكثر من غيرها، وتُعد مدينة بهلا من أشهر المدن العمانية في هذا المجال. وأصبح من يرغب في رؤية الأدوات الأولى التي استخدمها الإنسان يأتي إلى بهلا لزيارة المصانع القديمة التي تديرها العائلات المتوارثة لهذه الحرفة حتى يومنا هذا.
لقد حرصت الحكومة العُمانية على المحافظة على هذه الحرفة، فأنشأت مصنعاً لصناعة الفخار وتدريب الشباب عليها، كما دعمت بعض المصانع التقليدية للحفاظ على استمراريتها. وبما أنني أنتمي إلى عائلة اعتنت بهذه الحرفة أباً عن جد، أجد أن حرفة الفخار قد أصبحت في أيادٍ أمينة بفعل جهود الأهالي، على الرغم مما تعرضت له من تحديات نتيجة الصناعات الحديثة.
يعكس تاريخ الفخار مسار تطور الإنسان منذ العصور القديمة، حيث كان يمثل رمزاً للتكيف البشري مع البيئة والاحتياجات اليومية. من موقع مورافيا إلى حضارات وادي الرافدين إلى مصانع الفخار ببهلا، نرى كيف أصبح الفخار جزءاً أساسياً من الحياة اليومية للإنسان، موفراً وسيلة لتخزين المدخرات وحفظ الغذاء والتعبير الفني في آن واحد. وبينما تستمر الكشوفات الأثرية في كشف المزيد من الأسرار حول هذه الحرفة، يبقى الفخار شاهداً حياً على عبقرية الإنسان القديم وإبداعاته التي لا تزال تؤثر في حاضرنا.