مريم الحتروشي
ورحل “ودهيراه “.. ليعلن عن تلاشي حقبة من الحقب التاريخية لمدينة صور ، المدينة الميناء وكعادة الموانيء أن تضم في نسيجها المجتمعي الكثير من الأجناس والكثير من الديانات ، والكثير من المشارب والثقافات ،
وليضرب لنا “ود هيراه”مثالاً على الصبر والتفاني في العمل ، رحل بعد أن أفنى حياته في صور حيث قضى فيها ما يقارب ٨٢ عاما، أي عاصر عهد السلاطين منذ عهد السلطان تيمور ثم السلطان سعيد بن تيمور، الى عهد السلطان قابوس طيب الله ثراه، الى عهد السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه ، سنوات عمره قضاها هو وعائلته كشأن الكثير من البنايين منهم بابوه وبرشوتم ولالجيه وودريواه وود كيسوه وعبدول ، في مدينة صور العمانية صور الميناء الذي رست فيه سفن الغنجة و البدن و البوم والسمبوق في صيف عام ١٩٤٢م ، وهي تمور مورا بشتى أنواع البضائع ، حيث يقول ودهيراه : “أهل صور هم عائلتي”
ومن حينها وهو يستوطن صور ، عاش رفقة أجدادنا يعرف الاولاد ،ولا يخفى عليه شبه الأحفاد ، يشاركونهم في أفراحهم وأتراحهم ، تأتيه بضاعته من بومبي على ظهر السفن الصورية التي ترسو في خور البطح ، ثم تحملها قوافل النوق عن طريق سكة البوش حتى تصل بها الى موقع دكاكين البنايين في السوق ،
عاش البنايين في صور ، وأضحت لهم حارة تعرف بحارة البنايين وأضحت لهم مواقع محلاتهم الشهيرة وبضاعتهم الهندية الأصيلة ابتداء من العطورات الهندية المعتقة الى العود الهندي الخشب الخام الى قطع الملابس المستوردة من الهند ومدنها الكثيرة والتي تحمل أسماء المدن التي تُحاك فيها مثل القزراتي المقلم الذي بجلب من كوجرات الهندية ، وعين بقرة وليست البقرة وعيونها ببعيد عن اهتمام البنايين فهي معبودهم الذي به يتبركون ، الى الحرقاني الى ابومشاطه إلى الشوادر والمعاوز التي تلتحف بها النساء، الى المصارة الكشميرية والوزرة الكشميرية ، التي يرتديها أهل صور ، الى الدقلات وقماش الشاتوش ، بالإضافة الى المواد الغذائية من جواني الأرز البسمتي ، والشاي والقهوة والسكر والسمن والحلويات ، وأنواع البهارات ،
والبنانيين يعيشوا ويعتاشوا في صور ، هم وأسرهم ، وكثيرا ما يشهد لهم الأجداد بالخلق القويم حتى أنهم يصومون في نهار رمضان فلا يأكلون ولا يشربون أمام المسلمين احتراما لقدسية الشهر الفضيل، ويربون أولاهم على ذلك ،
وهكذا أتقنوا اللهجة الصورية بمفرداتها ، كما دخلت الكثير من المفردات الهندية الى اللهجة الصورية والتي تسري على ألسنة أهلها،
رحل “ودهيراه” وهو يضرب مثالا في التشبث بالثوابت ، والتمسك بالأصالة والتي تعني الكثير في نظر معتنقيها الرافضين للحداثة ومتغيراتها.
وهكذا رحل “ودهيراه” بين طيّات البيت الذي سكن فيه منذ سنوات صباه الأولى ليضرب مثالاً على مدى الألفة والتآلف بينه وبين الأرض التي فيها سبب معاشه ، ومنذ أن فتح عينيه على هذه الحياة ، ليصحّ قول المثل الصوري فيه ” دارك مب اللي انولدت فيها ، دارك اللي تُرزق فيها” وليصرّ على أن صور هي دارهُ التي رُزق فيها المعاش والتجارة .
رحل “ودهيراه” كما رحل الكثير من قبله لظروف مرضية وللظروف الاقتصادية التي عصفت بالعالم إثر جائحة كورونا ،
فسلام عليك ” ودهيراه”
هي كلمة وفاء تصافح الوجوه السمحة التي صحبتَها في سنيِّ صباك الأولى وشبابك ، سلامُ عليك “ودهيراه” هي كلمة وفاء من الجيل الأخير الذي يكاد أن يحمل بعض ملامح المدينة الميناء التي كادت أو أوشكت على الغياب كما غاب أصحابها وأهلوها الأوائل .