سامر بن محمد بن إلياس البلوشي
ilyasabcd@gmail.com
يعد الدفاع الشرعي أحد المبادئ القانونية التي تتيح للفرد استخدام القوة لحماية نفسه أو غيره من خطر داهم دون انتظار تدخل السلطات.
ولكن مع تطور القوانين والنظم الاجتماعية، ظهر مفهوم جديد تحت مظلة الدفاع الشرعي، وهو “الدفاع الشرعي الوقائي”، الذي يعكس الحاجة إلى التعامل مع تهديدات قد تكون غير مباشرة أو لم تحدث بعد بشكل فعلي.
الدفاع الشرعي الوقائي يشير إلى استخدام القوة أو اتخاذ إجراءات دفاعية قبل وقوع الاعتداء أو الضرر، استنادًا إلى توقع عقلاني ومبرر بوقوع خطر وشيك أو محتمل.
وبخلاف الدفاع الشرعي التقليدي، الذي يُطبق في لحظة الاعتداء الفعلي، يرتكز الدفاع الوقائي على توقع تهديد حقيقي قد لا يكون متحققًا بشكل كامل في اللحظة الراهنة، مثال على ذلك، إذا كان شخص ما يُهدد بشكل متكرر بأنه سيعتدي على حياة فرد آخر، وكان هناك دليل ملموس يشير إلى أن هذا التهديد قد يتحقق قريبًا، فقد يكون من المبرر قانونيًا للفرد الآخر اتخاذ إجراءات دفاعية وقائية.
ويعود ظهور هذا المفهوم إلى عدة عوامل، منها، الزيادة في التهديدات الإرهابية والجماعية في عالم يتزايد فيه خطر الهجمات الإرهابية أو الاعتداءات الجماعية، ليصبح التصرف الوقائي ضروريًا لتفادي وقوع كوارث قبل أن تتطور، التكنولوجيا والتسليح المتقدم مع تطور التكنولوجيا ووسائل الهجوم المتقدمة، قد لا يكون هناك وقت كافٍ للانتظار حتى وقوع الاعتداء الفعلي، مما يستدعي التدخل الوقائي، العنف المنظم العصابات والجماعات المسلحة قد تشكل تهديدات متوقعة تستدعي الدفاع الوقائي.
ورغم أن الدفاع الوقائي قد يبدو مبررًا في حالات معينة، إلا أنه ليس مطلقًا، فيجب توفر بعض الشروط لكي يكون هذا الدفاع مشروعًا من الناحية القانونية وهي التهديد الجدي والمباشر يجب أن يكون هناك تهديد حقيقي ووشيك بالاعتداء، وليس مجرد شكوك أو افتراضات غير مبررة، التناسب في استخدام القوة يجب أن تكون الوسيلة الدفاعية متناسبة مع حجم التهديد.
وإذا كان التهديد بسيطًا، فإن استخدام القوة المفرطة قد يؤدي إلى فقدان الحق في الدفاع الشرعي، وعدم وجود بدائل أقل ضررًا ينبغي أن تكون الوسيلة الوقائية الخيار الأخير بعد استنفاد جميع الوسائل السلمية أو القانونية الأخرى.
نضع بين أيديكم بعض القصص التاريخية القديمة عن الدفاع الشرعي الوقائي، ومنها قصة السفينة كارولين الأمريكية ترتبط بأحداث جرت في عام 1837 خلال ثورة المتمردين في كندا ضد الحكم البريطاني، وتُعتبر حادثة كارولين من أبرز الحوادث التي أثرت على تطور مفهوم الدفاع الشرعي الوقائي في القانون الدولي، في عام 1837، اندلعت ثورتان في كندا، واحدة في كندا العليا (التي أصبحت لاحقًا أونتاريو) وأخرى في كندا السفلى (التي أصبحت لاحقًا كيبيك)، ضد الحكم البريطاني.
في كندا العليا، قاد التمرد ويليام ليون ماكنزي الذي حاول الإطاحة بالحكومة البريطانية الاستعمارية، هذا التمرد لم يحظَ بدعم كبير داخل كندا نفسها، لكنه تلقى دعمًا من بعض المجموعات في الولايات المتحدة، خصوصًا في المناطق الحدودية، وإحدى هذه المجموعات استخدمت السفينة الأمريكية كارولين لنقل المساعدات، بما في ذلك الأسلحة والإمدادات، إلى المتمردين الكنديين.
كانت السفينة تقوم برحلات بين الولايات المتحدة وكندا لنقل الدعم من داخل الولايات المتحدة إلى المتمردين ضد الحكم البريطاني. في ديسمبر 1837، وأثناء رسو السفينة كارولين على الجانب الأمريكي من نهر نياجرا، شنت قوات بريطانية-كندية هجومًا على السفينة. قامت القوات بمهاجمة السفينة وهي راسية على الجانب الأمريكي، وأشعلت النار فيها، ودفعتها باتجاه الشلالات. أدى الهجوم إلى مقتل شخص واحد على الأقل، وتصاعدت التوترات بين بريطانيا والولايات المتحدة نتيجة لهذا الهجوم على الأراضي الأمريكية. أثارت حادثة كارولين أزمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة وبريطانيا.
الولايات المتحدة اعتبرت الهجوم انتهاكًا لسيادتها، بينما بررت بريطانيا الهجوم بأنه كان دفاعًا وقائيًا ضروريًا لمنع استمرار الدعم العسكري للمتمردين الكنديين. مع مرور الوقت، أصبحت حادثة كارولين مرجعًا هامًا في القانون الدولي لتطوير مفهوم الدفاع الشرعي الوقائي. خلال المناقشات الدبلوماسية التي تلت الحادثة، وضع وزير الخارجية الأمريكي دانييل ويبستر مبدأً مهمًا حول شروط الدفاع الشرعي الوقائي. أكد ويبستر أنه لكي يكون الدفاع الشرعي الوقائي مبررًا، يجب أن يكون الخطرحتميًا ولا مفر منه ضرورة فورية وملح، لا توجد وسيلة بديلة لتجنبه، يجب أن يكون استخدام القوة متناسبًا مع التهديد. أصبحت هذه المعايير تعرف باسم “معيار كارولين”، وهي تشكل حتى اليوم الأساس لتقييم مدى مشروعية الدفاع الوقائي في القانون الدولي.
ويعتبر هذا المبدأ مهمًا في مناقشة استخدام القوة العسكرية قبل حدوث هجوم مباشر.
وحادثة كارولين لا تُذكر فقط كنزاع بين الولايات المتحدة وبريطانيا، بل أيضًا كمثال تاريخي أساسي في تطوير مفهوم الدفاع الشرعي الوقائي، ورغم أن الهجوم البريطاني على السفينة قد تم تبريره بوجود تهديد وشيك، إلا أن المفاوضات التي تلت الحادثة أرست معايير قانونية صارمة للاستخدام المبرر للقوة الوقائية، وهي معايير لا تزال مرجعًا في القانون الدولي الحديث.
وقصة السفينة فيرجينيوس الأمريكية مرتبطة بالثورة الكوبية ضد الحكم الإسباني في القرن التاسع عشر، وهي واحدة من أبرز الحوادث التي كادت أن تؤدي إلى صراع كبير بين الولايات المتحدة وإسبانيا.
هذه الحادثة جرت في خضم محاولة كوبا الحصول على استقلالها عن الاستعمار الإسباني، حيث كان العديد من الأمريكيين يدعمون حركة الاستقلال الكوبية، سواء لأسباب إنسانية أو مصالح اقتصادية.
في القرن التاسع عشر، كانت كوبا مستعمرة إسبانية مهمة، ولكنها شهدت تحركات متزايدة للاستقلال. في عام 1868، اندلعت ثورة كبرى ضد الحكم الإسباني عرفت بـحرب العشر سنوات (1868-1878). هذه الحرب كانت أولى محاولات الكوبيين لتحقيق الاستقلال، وكان المتمردون الكوبيون يحظون بدعم كبير من الأفراد والمنظمات في الولايات المتحدة. السفينة فيرجينيوس كانت باخرة بخارية أمريكية مسجلة تحت العلم الأمريكي، وكانت تقوم بتهريب الأسلحة والإمدادات للثوار الكوبيين الذين يقاتلون ضد القوات الإسبانية. كان طاقم السفينة مكونًا من أمريكيين، بريطانيين، وكوبيين، وكانت تحمل أسلحة ومساعدات موجهة لدعم المتمردين في كوبا.
في أكتوبر 1873، تم اعتراض السفينة فيرجينيوس من قبل البحرية الإسبانية قرب سواحل كوبا، وزعمت السلطات الإسبانية أن السفينة كانت تنتهك القوانين الدولية بتهريب الأسلحة لدعم المتمردين ضد إسبانيا، وقامت بمصادرتها واعتقال طاقمها. ما زاد من حدة التوتر هو أن السلطات الإسبانية قامت بإعدام 53 من أفراد الطاقم، بمن فيهم أمريكيون وبريطانيون وكوبيون، بعد محاكمات سريعة. أثارت هذه الإعدامات غضبًا شديدًا في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، مما أدى إلى تصاعد التوترات الدبلوماسية بشكل كبير. أدت حادثة فيرجينيوس إلى أزمة دبلوماسية كبرى بين الولايات المتحدة وإسبانيا. كان هناك دعوات في الولايات المتحدة لخوض حرب ضد إسبانيا انتقامًا لإعدام المواطنين الأمريكيين. في تلك الفترة، كانت المشاعر القومية عالية، وكان العديد من الأمريكيين يعتبرون أن الولايات المتحدة يجب أن تدافع عن مواطنيها وعن قضية الاستقلال الكوبي. على الجانب الآخر، بريطانيا، التي كان لديها رعايا بين من تم إعدامهم، تدخلت أيضًا في الأزمة وطالبت بالتحقيق والمحاسبة.
بعد تصاعد التوتر، تم تجنب الحرب بفضل الدبلوماسية. نجحت الولايات المتحدة في التفاوض مع إسبانيا، وفي النهاية، تم التوصل إلى تسوية. قدمت إسبانيا اعتذارًا رسميًا للولايات المتحدة، وتم تسليم السفينة فيرجينيوس إلى السلطات الأمريكية. كما قدمت إسبانيا تعويضات مالية لعائلات الأمريكيين الذين تم إعدامهم.
على الرغم من هذا الحل السلمي، إلا أن الحادثة أظهرت مدى هشاشة العلاقات بين إسبانيا والولايات المتحدة، وكانت إحدى الأسباب التي ساهمت في تزايد التوترات بين البلدين، والتي بلغت ذروتها في الحرب الإسبانية الأمريكية عام 1898.
حادثة السفينة فيرجينيوس تُعد واحدة من أبرز الحوادث التي كادت أن تشعل صراعًا بين الولايات المتحدة وإسبانيا في القرن التاسع عشر، ورغم حل الأزمة بشكل دبلوماسي، إلا أن هذا الحادث كان جزءًا من سلسلة من الأحداث التي أدت في النهاية إلى انهيار الحكم الإسباني في كوبا وتدخل الولايات المتحدة في الشؤون الكوبية في الحرب الإسبانية الأمريكية، مما أسفر عن استقلال كوبا في نهاية المطاف.
العدوان الثلاثي على مصر تم تبريره من الغرب على أنه ضمن نطاق الدفاع الشرعي الوقائي، وكان المبرر أن مصر يمكن أن تعرض المصالح الدولية للخطر، بسبب تأميم قناة السويس.
ومن ضمن مبررات الحرب الامريكية على العراق التي راح ضحيتها مليون مدني بريء، على أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل وسوف يستخدمها للاضرار بالمصالح الدولية كانت ضمن إطار الدفاع الشرعي الوقائي. بالإضافة الى حرب أفغانستان.
وأسباب حرب فيتنام كانت من ضمن مبرراتها الدفاع الشرعي الوقائي على أنها كانت تؤمن بالفكر الاشتراكي مما يهدد المصالح الامريكية في شبه الجزيرة الكورية ومنطقة الشرق.
وكلنا يعلم عن الأزمة الكوبية عندما ذهب الاتحاد السوفيتي ووضع أسلحة نووية ورؤوس نووية في كوبا، حيث أن الولايات المتحدة قامت قبل ذلك بوضع أسلحة نووية في تركيا في مواجهة الاتحاد السوفيتي.
ويمكننا سرد بعض الحروب الحديثة ضمن نطاق الدفاع الشرعي الوقائي من ضمنها حرب روسيا ضد أوكرانيا حيث أن روسيا احست بأن الناتو يرغب بمحاصرتها فاستبق الاحداث بحرب أوكرانيا.
الدفاع الشرعي الوقائي يثير الكثير من الجدل في الأوساط القانونية، فمن جهة، هناك من يؤيدون هذا المفهوم باعتباره ضروريًا لحماية الأفراد من تهديدات حقيقية قد تتطور بشكل سريع، ومن جهة أخرى، هناك من يعتبر أن السماح باستخدام القوة الوقائية قد يفتح الباب أمام إساءة استخدام هذا الحق، وقد يؤدي إلى تصرفات غير مبررة قانونيًا.