خاص ـ شؤون عُمانية
في ظل التطور التكنولوجي الذي يشهده العالم وانتشار منصات التواصل الاجتماعي خاصة بين الفئات العمرية الصغيرة، أصبحت هذه المنصات تشكل خطرا على أفكار بعض الشباب من خلال بث الأفكار المتطرفة والآراء المتشددة وسهولة التواصل مع الآخرين، الأمر الذي يستدعي ضرورة تضافر الجهود بين المؤسسات الوطنية المعنية لتعزيز الوعي الديني والوطني لأبناء الوطن وتسخير هذه المنصات في زرع القيم الإيجابية لتحصينهم من الأفكار الشاذة عن قيم ديننا الحنيف وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة.
ويقول الدكتور رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة: تمثل ظاهرة التطرف والفكر التكفيري اليوم أحد المنغصات التنموية التي باتت تكتوي بنيرانها العديد من البلدان حول العالم، نظرا لشيوع حالة السلبية وانتشار الأفكار المتطرفة واتساع هوة العلاقة بين المكونات الفكرية والدينية في المجتمع، وحالة التساهل في التعاطي مع هذه الملوثات الفكرية والأفكار السلبية والقناعات الضارة ومصادرة الأفكار وتعتيم أدوات التفكير والبناء، الأمر الذي أدى إلى موجة من الاختلالات في بنية المجتمع وثقافة أبنائه، كما أدى انتشار ظواهر التطرف إلى انعكاسات سلبية على التنمية والتطوير وعلى الفرد والمجتمع، وغياب الصورة التكاملية بين فئاته في إدارة الأزمات والتعامل مع المنغصات وغياب الوعي الجمعي، وما تبعها من ضعف جانب الاحتواء الوالدي والمجتمعي وانحسار دور المؤسسات الدينية ودور العلماء والقائمين على الوعظ والإرشاد، أو الدور الرقابي والتوجيهي والإصلاحي الذي يتبناه المجتمع في تبصير النشء بواقعه وفهم التحديات التي تواجهه وإدراك الآليات والأساليب والأدوات التي يجب أن تكون قوة له في مواجهة ثورة الواقع المضللة وضلالاته المحيرة، وفي المقابل وجود من يتبنون الأفكار المتطرفة والفكر التكفيري المتشدد ما نتج عنه غياب وجود المشروع الحضاري التنموي الذي يصنع للمجتمع القوة ويضعه أمام رؤية مستقبلية في التقدم والتطور يتقاسم الجميع إنتاجها وإعادة بنائها.
ويضيف: لقد ارتبط بهذه الصراعات الفكرية دعوات تكفيرية وتحريضية وتنظيمات عالمية وإقليمية وغيرها، حيث استغلت حضور الشباب والمراهقين من الجنسين في منصات التواصل الاجتماعي، وبما حملته الأخيرة من خصوصيات في التواصل الشخصي والتفاعل الفردي والجماهيري على حد سواء، الأمر الذي ساعد هذه التنظيمات في توجيه أهدافها الدنيئة وبث سمومها القاتلة، وحشد جهودها في استمالة النشء وتقريب الصورة لديه في نوع الحياة التي يريدها ويطمح إليها في هذه المرحلة العمرية من حياته والتي تعد من أصعب الفترات وأدقها وأخطرها لحاجة النشء فيها إلى من يقترب منه ويتواصل معه ويتفاعل مع أفكاره، ليجد الكثير منهم نفسه ضحية هذه المنصات التي بدأت تمارس دورها التغريري في تغريب النشء عن نفسه وإبعاده عن أولوياته واحتقاره لذاته ومحاولة إعادة التغيير في سبيل الانتقام من الواقع والتذمر من الحياة وإغلاق مساحات الأمل في العيش.
ويوضح العويسي: وفي ظل هذه المعطيات، على المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية والدينية مسؤولية إنتاج الحلول وتوفير البدائل وبناء أدوات أكثر ابتكارية في إدماج النشء مع الواقع الاجتماعي في إطار متوازن ومتناغم يراعي المكون النفسي والفطري والاجتماعي والبيئي والوطني والعالمي، ويبقى فيها خيار القوة لصالح بناء “مجتمع إنسانه مبدع معتز بهويته، مبتكر ومنافس عالميا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام”، كونها من أكثر المنظومات قدرة على صناعة التغيير وإعادة هندسة السلوك الاجتماعي وبناء قدرات الفرد، وبالتالي يجب أن تلتفت المنظومات التعليمية والدينية والإعلامية والأسرة لمثل هذه الممارسات وتراقب تطور هذه الأفكار، وتنزل من برجها العاجي إلى الواقع مع تمكين القائمين عليها وتمكنهم من إدراك مسؤولياتهم، وتتخذ إجراءات وقائية استباقية في فهم شخصيات النشء والمدركات الحسية والفكرية لديهم والتأثيرات التي تواجههم، واستقراء الأحداث التي باتت تتدخل في توجيه مدركاته الحسية والفكرية، وتوفير المساحات الفكرية التي تغذي عقله وقلبه من جهة أو تجيب عما يدور في تفكيره وخواطره من تساؤلات وحوارات ونقاشات، إجابة كافية وافية مقنعة وضامنة لتحقيق نتائج إيجابية على حياة النشء، ووضعه أمام مرحلة من المكاشفة والمصارحة وخلق روح الثقة والاطمئنان في الإفصاح عن كل ما يفكر فيه أو يتحدث به بما يقلل من ردود الفعل السلبية التي يتلقاها من النماذج الوهمية التي التصق بها عبر المنصات التواصلية والتنظيمات الإلحادية أو تلك الحركات التحريضية النسوية وغيرها، إذا ما علمنا أن أصحاب هذه التنظيمات الفكرية يستهدفون زعزعة الثقة في والديه وأهل بيته وعدم الإفصاح عما يجري في حياته.
ويبيّن في حديثه: من هنا فإن تحصين المجتمع من أفكار التطرف السامة إنما يتأكد اليوم عبر سلسلة من الموجهات والبرامج والخطط والاستراتيجيات التي تعظم من دور المبادئ الأخلاقية والاجتماعية والثقافية الفكرية، في سبيل ترسيخ ثقافة البناء الفكري في حياة الفرد والمجتمع وتأصيل الأمن الفكري من أخطار التطرف والفكر التكفيري، الذي يحافظ على درجة التوازنات حاضرة في قناعات الفرد وأفكاره وقراءته للأحداث وتقييمه للأمور وتعامله مع المواقف وتعايشه مع الظروف يستدعي الوقوف أمام حالة عدم الاستقرار الفكري، من خلال قراءة هذه الأفكار والظواهر في صورة أكثر شمولية واتساعا وتكاملية بين دور القطاعات المعنية بها والمسؤوليات المشتركة حولها، في ظل موجهات واضحة ومحددات قائمة على إعلاء القيم الدينية والهوية العمانية وترسيخ مبادئ السمت العماني الأصيل وقيم العمل والحياة الراقية وقيم السمو الفكري والنهضة الفكرية المتوازنة والبعد عن الشطحات الفكرية التي قد يكتسبها الشباب من خلال المنصات التواصلية والتأثر بالآخرين، لذلك كانت الحاجة اليوم في ظل هذ التشوية الذي بات يوجه نحو قيم الناشئة، والتنازلات التي باتت تتقنها حول هويتها ومبادئها في ظل تسارع المتغيرات وهجمات التغرير الفكري والأخلاقي، وغياب الوازع الديني والخلقي، كانت الحاجة إلى إعادة إنتاج القيم العمانية، وترسيخ القيم الإيجابية والفاضلة وبث روح الحياة فيها، وتعزيز حضورها في مكونات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، وتكريس الجهود الوطنية نحو رصد مواطن التميّز والقوة في القيم والهوية العمانية التي شكلت خصوصية المجتمع العماني، والعمل على إحيائها ومراقبتها ورصدها، وتنقيتها من الثغرات والشوائب، والعمل على جعلها حية ناصعة في نفوس أبناء عمان يفتخرون ويتفاخرون بها، بما يجعل منها مددا للبناء التطوير، ويحصّن المجتمع من الأفكار الدخيلة، والممارسات المشوهة، والحركات التحريضية، والظواهر التكفيرية وظاهرة التطرف والانحراف الفكري وسلبية التفكير التي باتت تؤثر على إنتاجية القيم.
ويختتم العويسي حديثه بقوله: يبقى التطرف بكل أشكاله نباتات كريهة سامة وجراثيم مميتة وظواهر سلبية مقيتة تنذر بخراب البلاد وضياع الديار ودمار التنمية، إذ لا يؤدي إلى خير، ولا يرجى منه نفع، فمنبته مذموم وتوجهه عقيم وغايته دنيئة وهو الشر والإثم المحتوم لا تقبلها التربية العمانية الطيبة التي لا تنبت إلا طيبا ولا تقبل أن تلقى فيها بذور الفرقة والشقاق.
من جهته، يرى منذر بن عبدالله السيفي، باحث شؤون دينية بمكتب وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، أن التربية عمل شاق وجهد يحتاج إلى تكاتف الجهود بين جميع المؤسسات المعنية بالجوانب التربوية، فالناظر إلى الأوضاع الحالية يجد وضعا صعبا فقد أوشكت كثير من المبادئ أن تختفي ومجموعة من القيم أن تندثر نتيجة الحملات الممنهجة التي تعصف بالأجيال عبر وسائل التواصل المختلفة، يتلقى خلالها الشباب والفتيات بعض الأفكار المضللة والتوجهات المنحرفة، فقد وفرت هذه الشبكات العديد من المنصات المتنوعة لنشر ثقافة العنف والترويج لدعايات المضللة واستقطاب أفراد يحاربون في سبيل قضيتهم المزعومة وقد وسعت شبكات التواصل الاجتماعي هذا النطاق وزادت وتيرة السرعة في نشر الراديكالية والتجنيد لا سيما عند بعض التنظيمات التي تدعي نصرة المظلوم والعودة إلى الخلافة الراشدة، وقد استهوت ما تنشره هذه الجماعات أهواء مجموعة من الشباب في العالم الإسلامي والعربي، ويعد التطرف والغلو من أكبر الازمات التي تعاني منها الدول الإسلامية والعربية عموما، وعليه فإن الشريعة الإسلامية حاربت التطرف والغلو بكل أشكاله وأنواعه واعتبرته فعلا شنيعا وسلوكا وضيعا وتصرفات بذئية، وحينما يتعلق الغلو بالقتل وترويع الآمنين فإنه يعد حرابة والله تعالى يقول “إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي الدنيا ولهم في الأخرة عذاب عظيم”، كما لا يقتصر التطرف إلى ما هو ديني ومذهبي وطائفي بل هناك ما هو أصعب اليوم على الجهات التربوية والرقابية وهو كيفية التعامل مع الفكر من حيث التعصب والمغالاة والتنطع والتشدد في الآراء والانتصار للذات وخدمة بعض الأجندات المنحرفة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التطرف والغلو حيث قال “إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين”، والغلو هو المبالغة في الشيء والتشدد فيه بتجاوز الحد وقد نهى المصطفى صلى الله عليه وسلم عن التنطع في الدين فقال ثلاثا “هلك المتنطعون” والمتنطعون هم المتجاوزون للحدود في أقوالهم وأفعالهم، ولخطورة ترويع الآمنين فإنه لا يجوز ترويع المسلم لأخيه المسلم ولو كان مازحا فقد ثبت في السنة أن رجلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أخذ نعل صاحبه وأخفاها ويقصد بذلك المزاح، فوصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال “لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم” فكيف بمن يروع مسالما في داره أو مقر عبادته فإن الوزر أعظم والعقوبة أشد.
ويؤكد السيفي: من أهم النقاط للوقاية من الغلو والتطرف والتصدي له، التركيز على الوعي الديني فالمؤسسة الدينية يعول عليها تحصين الفكر وغرس القيم والمبادئ والأعراف العمانية الأصيلة ومواكبة الخطاب الديني للفهم الصحيح لمعاني الدين من خلال قنوات التوعية والتوجيه كخطب الجمعة والمحاضرات والدروس، وعقد الندوات من خلال المناسبات الدينية وتوجيه الشباب إلى وسطية الدين واعتداله وتوازنه، والعمل على ترسيخ الانتماء لهذا الدين ومعرفة الأفكار المنحرفة وتحصين الشباب ضدها، من خلال إعادة النظر في إحياء الأعراف العمانية التي تعزز الفكر السليم والأعراف الأصيلة في النفوس وخدمة الوطن والحفاظ عليه من البذور السامة والأفكار المنحلة وتعزز قيم التسامح ونبذ التعصب والغلو، بالإضافة إلى أهمية الحوارات مع الشباب واستغلال أوقاتهم وتحذيرهم من خطورة تبني الأفكار المنحرفة قبل أن تصل إليهم بالطرق المنمقة والأساليب الخداعة التي تغرر بهم.
كما يلفت إلى ضرورة التركيز على وسطية الإسلام والتعايش المشترك من خلال بث برامج عبر قنوات الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة وبث المقاطع التوعوية التي تحث الشباب على القيم والمبادئ والأخلاق وحب الآخرين وحماية المجتمع من الغلو والتطرف والإرهاب وغرس الأعراف العمانية النبيلة في نفوس أبناء الوطن، مع الاهتمام بالشباب والفتيات في الجامعات والكليات والمعاهد والتركيز على بث الأخلاق بينهم وتحصين أفكارهم من الصادر لهم ومحاورتهم بالأساليب الطيبة والنقاش الذي ليس فيه شطط ولا غلو من خلال متخصصين في المجالات الحوارية والتربوية والنفسية واستغلال طاقاتهم وقدراتهم من خلال المخيمات الصيفية والمناشط المختلفة وغيرها.
ويشدد السيفي على ضرورة الاهتمام بالكوادر الدينية وصقل مواهبهم ومراجعة منظومة التوجيه والإرشاد من خلال الأساليب الحديثة والتكيف مع المستجدات في المجتمع ومواكبة التطورات فيه والتعامل مع المخاطبين بالطرق الحديثة وتجنب الأساليب التقليدية قدر الإمكان لجذب الجمهور وتمرير الأفكار السمحة بطرق ينسجم معها المتلقي والتركيز على تعيين الكوادر الدينية وفق جغرافية المنطقة ومدى احتياجها وأهميتها وكثافتها السكانية.
وتقول القانونية والمحامية أمل اليحيائية أنه في مثل القضايا البشعة التي تتلامس مع العقيدة وتتصل اتصالاً وثيقاً بفكر مرتكبيها، الذين يسعون سعياً حثيثاً لنشر فكرهم المضلل، وهو ما يشكل خطراً داهماً على أبنائنا وبناتنا من التأثر بهذا الفكر الشاذ عن الواقع العماني والثقافة العمانية، وهو ما يجب مقابلته ومناهضته بحملة فكرية توعوية مركزة وموسعة تشارك فيها كافة هيئات الدولة ومؤسساتها؛ لاسيما المؤسسات التعليمية والدينية والثقافية ودور العبادة، إلى جانب كافة المنابر الإعلامية المعتمدة والمؤثرة، المرئية منها والمسموعة والمقروءة، وذلك تحت إشراف ومتابعة لجنة عليا تشكل خصيصاً لهذا الغرض.
وتضيف: نظراً لعظم الدور المؤثر حالياً للتقنية الحديثة والأدوات الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وما تتمتع به من قوة مؤثرة في أفكار الشباب وتشكيل وجدانه، فإنه يجب أن يشارك في تلك الحملة التوعوية أصحاب الحسابات الرقمية عبر كافة وسائل التواصل، والشخصيات المؤثرة عبر الشبكة العنكبوتية، التي تحظى حساباتهم بشهرة واسعة وانتشار كبير وتأثير أكبر، تحت إشراف وتوجيه اللجنة العليا المشار إليها، وذلك للاضطلاع بمسؤولياتهم والنهوض بنشر ودعم الفكر الوسطي وبيان صحيح الدين، ونشر الثقافة العمانية التليدة القائمة على المحبة والتسامح وقبول الآخر، ونبذ الفكر المتطرف، والمعتقدات الغريبة والدخيلة على مجتمعنا العماني، وتوعية الشباب العماني لخطورة هذا الأفكار ومناهضتها، فالأمر جد خطير ويجب أن يتكاتف الجميع لمواجهته.