فايزة محمد
في الجزء الأول تحدثت عن بعضٍ من ملامح زيارتي- التي تأخرت- إلى مملكة البحرين الشقيقة، منها حضور محاضرة في مقر أسرة الأدباء والكتاب في البحرين.
وفي هذا الجزء، سأبدأ من حيث انتهيت في المقال السابق، سأتكلم عن زيارتنا للمتحف الوطني في المنامة وما يحتويه هذا المتحف من آثارٍ تحكي سيرةَ هذه الأرض الطيبة التي لعبت دوراً كبيراً في التاريخ الإسلامي، فقد افتتِح المتحفُ رسميّاً في 15 ديسمبر 1988، وتروي معروضاته تاريخ البحرين الممتدّ لأكثر من 5 آلاف سنة حيث كانت- كما جاء في موقع وزارة الإعلام البحرينية على الشبكة العنكبوتية العالمية- “مقرًا لحضارات دلمون” ثم “تايلوس” و”أوال”، ووصفت تاريخيًا بأنها “أرض الخلود” أو “أرض الفردوس العظيم” نظرا لشهرتها بينابيع المياه العذبة وغابات النخيل، وشكلت همزة وصل حيوية بين حضارات الفينيقيين في بلاد الشام، وبلاد الرافدين في العراق، ووادي النيل في مصر، وكشف علماء الآثار عن دلائل وشواهد تؤكد مكانة البحرين كمركز تجاري وبحري محوري بين الشرق والغرب.
كما يضم المتحف أقساماً مختلفةً تحكي كيف استطاع الإنسان البحريني عبر العصور المختلفة أن يسطّر تاريخه بأحرف من ذهبٍ ليسجل ملحمة أسطورية في الكفاح من أجل الأرض والإنسان.
كان برفقتنا في جولة المتحف الشيخ صلاح الجودر الذي كان يشرح لنا بالتفصيل وبخبرته الكبيرة محتويات المتحف، وكان معنا أيضا الأديب السوري موسى الزعيم والباحث البحريني الدكتور محمد الزكري اللذان أضافا إلى الجولة معلومات عن العلاقة بين الأدب والتاريخ، وكيف استطاع علماء التاريخ أن يكشفوا فصولاً مثيرةً من تاريخ العالم عن طريق الملاحم الأدبية كملحمة جلجامش والأوديسة والشاهنامة وغيرها والتي مزجت بين التاريخ والأسطورة.
وأكثر ما أثار انتباهي في المتحف هو الكرسي الذي جلس عليه بابا الفاتيكان فرنسيس أثناء زيارته التاريخيّة لمملكة البحرين، في 4 نوفمبر 2022م حيث شارك في ختام “مُلتقى البحرين للحوار- الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني” كذلك يضمّ المتحف المنصّة الخشبية التي تحدث منها البابا أثناء زيارته بالإضافة إلى السيارة التي تنقّل فيها في أرجاء البحرين.
ما لفت نظري أيضا أثناء وجودي في البحرين ولقائي مع كثير من المثقفين والمثقفات هو الاهتمام الكبير بالتعايش المجتمعي والحديث المُستمر عنه، حيث يكتسبُ مفهوم التعايش أهميّة كبيرةً جداً في البحرين، حتى أن الملك حمد بن عيسى آل خليفة أصدر في مارس 2018 أمراً ملكياً بإنشاء مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي يتبعُ للديوان الملكي.
وفي خطاب له في 16 نوفمبر 2016 بمناسبة اليوم العالمي للتسامح قال جلالة الملك: “من يتجول في البحرين ويشاهد مكتسباتها الحضارية؛ سيدرك حتماً أنها لم تبنَ إلاّ بقيمٍ أصيلةٍ، صارت سمةً من سماتها المميزة، قامت بلادنا العزيزة على التسامح والانفتاح والمحبّة والتعايش، وهو ما جعلها واحةَ للسلام بين جميع الأديان والمذاهب والأعراق، نفتخر بها جيلاً بعد جيل”.
والتعايش في البحرين، ليس وليد اليوم وإنما هو قديم قدم وجود الإنسان على هذه الأرض، فقد تعايش فيها أصحاب المذاهب والأديان والاتجاهات الفكريّة المختلفة منذ مئات السنين، فالبحرين لا تضم -كما يُعتقد البعض- السنة والشيعة وإنما الكثير من مدارس الفكريّة المختلفة حتى داخل المذهبين، إضافة إلى أديان أخرى.
وفي النصف الثاني من القرن المنصرم، كانت البحرين -رغم صغر حجمها وقلة عدد سكانها- تضمّ مختلف الحركات الفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكان حضور البحرينيين لافتاً في الأحداث العربية المُهمة، وكان هناك تواصل ثقافي وفكري بين مثقفي البحرين والسلطنة، وقد كتب الكاتب البحريني حسين مدن كتاباً ذكر فيه أسماء بعض المثقفين العمانيين الذي كانوا يكتبون في الصحف والمجلات البحرينية بعنوان “كتاّب عمانيون في مجلة صوت البحرين”.
وإذا تحدّثنا عن المذاهب الإسلامية في البحرين؛ فعند الشيعة -مثلا- هناك اتجاهان رئيسيان وهما الأصوليون والأخباريون، وهناك خطوطٌ فكريّة حديثة مثل جمعية التجديد الثقافية التي تمتلك رؤية مختلفة عن الاتجاهات الدينية الأخرى، وفي داخل السنّة هناك اتجاهات مذهبيّة ورؤى فكريّة مختلفة أيضاً، وجميع هذه المذاهب والأديان والأفكار تحتضنها أرض البحرين بكلّ رحابة صدر، فتسمحُ لها بممارسة شعائرها وعباداتها بكلّ حريّة ضمن إطار القانون الذي يحكم الجميع .
وخلال وجودنا في المنامة، حاولنا أن نستغل أغلب الوقت في زيارة أكبر عددٍ من الأماكن الدينية والتاريخية ودور العبادة، فقد نسّق مُضيفنا الشيخ صلاح الجودر عضو مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي مع إدارات هذه الأماكن والتي تقع في سوق المنامة الشهير، حيث قمنا بزيارة معبد الهندوس، إذ أن الوجود الهندوسي قديم في البحرين كبقية دول الخليج الأخرى، ثم قمنا بزيارة الكنيس اليهودي واطلعنا على مخطوطة قديمة للتوراة أهداها جلالة الملك حمد بن عيسى ملك البحرين للكنيس اليهودي، كما زرنا مأتم العَجم الكبير الذي تأسس سنة 1881 م ، واختتمنا جولتنا بزيارة كنيسة القلبِ المقدس.
وأثناء زياراتنا لهذه الأماكن الدينية، كان الجميع يرحّب بنا ويعطينا نبذة عن وجودها في البحرين وعن أهميّة التعايش في الحفاظ على النسيج الاجتماعي،وأنه رغم الاختلاف في الفِكر والعقيدة، إلاّ أن هناك مشتركات كثيرة تجمعنا، كالأرض والمصير المشترك ووحدة الدم والتطلّعات المشتركة، وأنّ التنوع هو سنّة كونيّة ندركها ولا يخلو مجتمعٌ إنساني من التنوع أو التباين.
من جهة أخرى تتميز مملكة البحرين بالمجالس الثقافية التي تنتشر في مدن المملكة، لكن للأسف لم يتسنَّ لنا زيارة أيّ مجلسٍ ثقافي، بسبب قلّة الأنشطة الثقافية في الصيف؛ إذ أن أغلب السكان يخرجون لقضاء إجازة الصيف، وهنا يمكن أن نذكر من هذه المجالس الثقافية المهمّة في البحرين، مركز عبد الرحمن كانو الثقافي ومركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث في مدينة المحرق، ومركز الجزيرة الثقافي، بالإضافة إلى أسرة كتاب وأدباء البحرين التي حضرنا إحدى فعاليتها.
كما أن البحرين معروفة أيضاً بأسواقها التاريخية الجميلة، ولذلك حرصت على أن تكون أول زيارة لنا في اليوم الأول من وصولنا زيارة باب البحرين وسوق المنامة الشعبي، وباب البحرين كان قد اكتمل بناؤه سنة 1949 ويمثل المدخل الرئيسي لسوق المنامة، الذي يعتبر من الأسواق الكبيرة، حيث يضمّ محلات مختلفة مثل محلاتٍ للأقمشة وأخرى للتوابل والأعشاب والأعمال اليدوية وغيرها، وباختصار فإن الزائر سيجد في هذا السوق كلّ ما يحتاج إليه وما عليه سوى أن يلبس ملابس رياضية خفيفة إن كان يريد التعرف على السوق كاملاً، كما أنه يستطيع أن يأخذ فترة استراحة في أحد المقاهي الشعبية المنتشرة في السوق وأشهرها مقهى حاجي الشعبي في سوق المنامة.
ويُعتبر سوق القيصرية من الأسواق الشعبية الشهيرة في البحرين وهو سوق قديم يُرجح أنّ تاريخ إنشائهِ يعود إلى بدايات القرن التاسع عشر والسوق الموجود اليوم هو جزء من السوق القديم، كما أنه حسب موقع هيئة البحرين للثقافة والآثار هو “أحد الأجزاء المهمة من مشروع طريق اللؤلؤ، الذي أدِرج على قائمة التراث الإنساني لليونيسكو عام 2012م”.
وفي سوق المحرق التقينا مع رجل الأعمال فؤاد محمد حسين شويطر صاحب أشهر وأقدم محلات الحلوى البحرينية التي تسمى أيضا بحلوى شويطر، وفؤاد شويطر يمثل الجيل الخامس من الأسرة التي توارثت مهنة صناعة الحلوى، وبالمناسبة هناك عدد من الأشخاص من عائلة شويطر يمتلكون محلات حلوى في البحرين، والتي لها شهرتها أيضا.
وعند سؤالنا للأستاذ فؤاد شويطر عن تاريخ صناعة الحلوى في البحرين قال: بأنها جاءت من النجف بالعراق، ثم أهدى إلينا كتاباً عن تاريخ صناعة الحلوى في البحرين، وجاء فيه أن جدّ والد فؤاد شويطر كان يسافر إلى البصرة للتجارة وتعرف هناك على جماعة من أهل النجف، وفي إحدى رحلاته إليهم عام 1850 التفتَ لطعام حلو ولذيذ قدموه له، وسمعهم يسمونه “حلوى” فصار يسأل عن صناعتها فعلموه، ولم يعد من تلك الرحلة إلاّ بعد أن أتقنها.
غادرنا البحرين بعد أسبوع كامل من الزيارات واللقاءات الجميلة وفي نهاية رحلتي اعتذرت لهم عن تأخري في زيارة البحرين، على وعدٍ مني بزيارةٍ أخرى قريباً إن شاء الله، للتعرف على فصلٍ آخر من حكاية مملكة البحرين السعيدة.