د. حمد بن مبارك الرشيدي
عتب علي بعض الأخوة لما ظنوه تنقيصا من مكانة أمين السر وعمله بعدما نشرت الجزء الأول، وأحب أن أنبه بأنني أتكلم عن تصوراتي وأنا في مرحلة عمرية مبكرة حيث بواكير الشباب، وحيث كانت الأمور عندنا لونين أبيض وأسود والناس قسمين معنا وضدنا، ليس هناك قصد في الأمور بل هو الإفراط أو التفريط وما، يصنع الكاتب إن كان يصف الحال بعيدا عن بهرجة القول والمثالية.
وهذه مقدمة لا بد منها فلكل عمر أحواله ورؤاه، نعوذ بالله من تشابه الأيام وانطفاء التوهج وموت الشغف وذهاب الدهشة والتعصب للآراء.
واستكمالا لما أسلفت في الحلقة الماضية وبعد إشعاري بالوظيفة
جلست أضرب أخماسا بأسداس وأقلب الأمر على وجوهه، وأعجم عيدان الأفكار علني أصيب رمية من استنتاج وأعرف سبب هذا التعيين في وظيفة لم أطلبها ولم أرغب بها، وتخيلت نفسي في منصة القضاء مأمورا لا يملك إلا الانصياع منهيا لا يملك إلا الازدجار عما نهي عنه، مسلوب الإرادة يتجبر فيك من هو فوقك ولا تستطيع أن ترد له أمرا ولا طلبا، وجلست أردد وأنا بتلكم النفسية المرهقة أبيات المعتمد بن عباد صاحب إشبيلة، وقد أصبح مأمورا منهيا بعد زوال ملكه وذهاب سلطانه أسيرا بأغمات من أرض المغرب وهو يقول:
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلا & لما تقول وكان الفعل مبرورا
وكم حكمت على الأقوام في صلف & فردك الدهر منهيا ومأمورا
ولما جمعت شتات فكري ولملمت شظاياه تذكرت أن سؤالا بالمقابلة كان قاصمة الظهر حيث سألوني عن الوظيفة التي أريد، فأجبت بأنها وظيفة الكاتب بالعدل، فقال لي أحد أعضاء اللجنة: فلتقرأ لنا آية الدين، ومع أنني كنت أحفظ شطرا حسنا من أطول آية في القرآن الكريم، إلا أنني لم أكن استظهرها كاملة، ولذلك أجبت بأنني لا أحفظها ولكم تمنيت أنني تلوت ما حفظت منها لكنت وفرت على نفسي كثيرا من النصب والتعب والبحث عن الشفاعات ليتغير مسماي من أمين سر إلى كاتب بالعدل ولكن البلاء موكل بالخوف والمنطق.
عموما طرقت أبواب الأكابر ممن لي دالة عليهم وقابلت المسؤولين بالوزارة فقالوا: إن هيأتك (باللحية والعمامةالبيضاء آنذاك) ودرجاتك تؤهلانك لمنصب الكاتب بالعدل، ولكن لا نجد لك مكانا إلا بولاية مصيرة
وما أبرد ذلكم الخبر على كبدي يومها وتوهمت نفسي أخوض لجج البحر وتلاطم الأمواج من أجل هذه الوظيفة تاركا وظيفة أمين السر، وإن كانت بالقرب من بيتي مقارنة بمصيرة حيث (من يعرف المطلوب يحقر ما بذل).
وافقت على مصيرة لولا أنني التقيت بالدكتور صالح الصوافي- رحمه الله- صاحب المواقف النبيلة والشفاعات الحسنة، وذهب بنفسه للوزارة مع زحمة أشغاله وكلمهم بأن ينقلونني إلى صحار على أقل تقدير، ولكنهم رضوا بالنقل ولكن إلى ولاية دما والطائيين التي مكثت بها سنة كاملة، كانت من أجمل أيام الحياة، حيث تعرفت على أناس أفاضل قل في هذه الحياة نظيرهم وندر أن يجود الزمان بمثلهم، وحدثت لي هنالك مواقف لا تكاد تصدق أبكتني وأضحكتني يظهر في بعضها اللطف الخفي وبعضها فيه من السوء الذي تأتي به الأقدار الشيء الكثير، وكلها سنتناولها في اللقاءات القادمة بعون الله. (يتبع)
hamedmo7979@gmail.com