*بقلم: خالد محمد عبده
في مقال” ما التصوف ” حاولت الإجابة على هذا السؤال من خلال ما شعرت به ولمسته في عالم التصوف عبر مطالعةٍ لأدبياته ومصاحبةٍ لمشايخه، فحاولت أن أتحدث عن مقاصد التصوف ومكانته بين العلوم الإسلامية الأخرى، كما أراه وأحاول التعرّف عليه أكثر، وفي هذا المقال أحاول مقاربة سؤال يتعلق بذكر بعض أعلام التصوف وجملة من المصنفات في هذا العلم، على أن يكون المقال الثالث والخاتم لهذه المقالات التمهيدية مخصصًا لمقاربة سؤال: بأي معنى نحتاج اليوم إلى هذا الجانب الروحي والأخلاقي المسمى بالتصوف؟ وهل من ضرورة للعناية به وإحيائه في حياة المسلم المعاصر؟ وكيف يمكننا فعل ذلك؟
كثيرون – شرقًا وغربًا في أرجاء العالم الإسلامي- أصبحوا علامات على هذا الطريق، ويستحضر الإنسان أسماء كثيرين منهم، فالجنيد الصوفي الذي وُصِف بسيد الطائفة واعتمد تصوّفه بشكلٍ رسمي في كثير من البلدان العربية، يمكنك أن تتعرّف على سيرته وأعماله اليوم بسهولة في عمل الأستاذة سعاد الحكيم: “الجنيد تاج العارفين“، وكذلك في عمل الأستاذ جمال رجب سيدبي: “رسائل الجنيد“، وإن أردت طريقًا أدبيًا للولوج إلى هذا العالم يمكنك أن تطالع عمل الأستاذ عبد الإله بن عرفة: “الجنيد ألم المعرفة“.
الجنيد اسم يحظى بالقبول عند المتشرعين، ولا يعترض عليه خصوم التصوف، لكنه لا يعبّر عن التصوف وحده، والبعض يعدُّ ما كتبه بسيطًا جدًا، يقترب منه ما كتبه الخركوشي صاحب كتاب “شرف المصطفى” إذ غلب على الأخير الوعظ وعُرف به وحظي بالقبول عند أهل التصوف وأهل الحديث، ويُختصر الجنيد كما يختصر الحارث المحاسبي في الصورة العربية التي وصلتنا، إلا أن المدقق في مرويات التصوف الفارسي سيتعرف على جنيد آخر عند روزبهان البقلي ومولانا جلال الدين الرومي، حتى أن المتتبع لأقوال الجنيد في المرويات العربية سيظفر بكثير من الأفكار واللمعات التي نراها عند صوفية آخرين غضبت السلطة الفقهية والسياسية عليهم.
الحلاج من تلك الشخصيات الصوفية الفريدة التي اختلف الجميع في شأنها، فبعضهم يجعله في أعلى سُلّم الولاية، وبعضهم يعدّه مارقًا خارجًا عن الشريعة، وبعضهم يعدّه من أهل السحر والشعوذة والطلاسم، وبعضهم يدرجه ضمن طبقة الشخصيات الكبرى التي لا تتكرر كثيرًا في التاريخ، أنكر عليه بعض الصوفية تصريحه، وأحبه بعضهم لنطقه وبوحه، بعضهم قذفه بوردة، والبعض قذفه بالحجارة وقال فيه ما قال، صوفيةٌ خاصموه وحنابلة وقفوا معه، مما يجعلك تحترز وأنت تتحدث عن الصوفية والحنابلة، فلا تطلق الأحكام: أن هذا من خصوم التصوف وذاك من أحبابه.
رُويت بعض أخبار الحلاج في كتاب يحمل هذا الاسم، ودرس شخصيته الشيخ طه عبد الباقي سرور، في كتاب خاص بعنوان: “الحلاج شهيد التصوف الإسلامي”، يساعدك هذان الكتابان للولوج إلى عالم الحلاج البديع، وإن أردت الدخول إلى هذا العالم من باب الأدب والحكاية يمكنك أن تطالع ما كتبه صلاح عبد الصبور “مأساة الحلاج” فلا يزال هذا العمل من أفضل الأعمال العربية التي كُتبت عنه، ومن أراد بعد ذلك أن يقرأ عملاً هامًا فليطالع كتاب “آلام الحلاج” للمستشرق الفرنسي لويس ماسنيون، فهو صاحب رحلة طويلة مع آثار الحلاج، ومن بعده “شرح ديوان الحلاج” لكامل مصطفى الشيبي.
لا غنى للمتابع لأخبار الصوفية عن مطالعة ما كتبه أبو عبد الرحمن السلمي في رسائله وكتبه فهو المؤرّخ الصوفي الذي حافظ على ميراث الجيل الأول من طبقات الصوفية، فمن يطالع “حقائق التفسير” وهو تفسير جزئي للقرآن جمعه أبو عبد الرحمن السلمي سيتعرف على الأقوال المنسوبة إلى الإمام جعفر الصادق الذي يعتبره الصوفية إمامًا لهم، ويروون عنه ما قاله في تفسير القرآن وهداية السالكين ووصولهم إلى حضرة ربّ العالمين، من خلال هذا الكتاب سنطالع آراء صوفية قدامى، من أمثال: ابن عطاء الأدمي، والنوري، والتُستري، وغيرهم، ستمثل هذه المادة التي جمعها السلمي فيما بعد مصدرًا هامًا لكل من يكتب في التفسير الإشاري.
لا يكتفي السلمي بذكر أخبار الرجال من صوفية الإسلام، بل يترك لنا أثرًا هامًا في الحديث عن بركة النسوة، بعنوان: ذكر النسوة المتعبدات، ولعله مهّد الطريق فيما بعد للتصنيف في هذا الغرض بشكل أوسع كما نراه عند الحصني في كتابه “سير السالكات المؤمنات الخيرات”.
كتابات كثيرة يمكن أن يتعرّف القارئ من خلالها على نظرة الصوفية لكثير من الأمور الدينية، فكتاب “اللمع للسراج الطوسي”، وكتاب “الرسالة القشيرية” من الكتب التي تفيد المطالع في هذا الباب، اهتمّ الدارسون والشرّاح بكتاب الرسالة للقشيري، ومؤخرًا صدرت له طبعة نقدية عن دار المنهاج، حُقق متنه بشكلٍ جيدٍ، ولعلّ أهم عمل قدّمه القشيري في علم التصوف إعادة كتابته للنحو بشكل إشاري، فقّدم في كتابه نحو القلوب الكبير ونحو القلوب الصغير ما يمكن اعتباره إطارًا نظريًا للتفسير الإشاري، وإن كان تفسيره الصوفي للقرآن لا يحقق للقارئ مبتغاه إذا ما قارناه بتفاسير صوفية أخرى: كتفسير إسماعيل حقّي، وروزبهان البلقي، وابن عجيبة.
ويمثّل اللغة الصوفية في أبهى صورها ما كتبه النّفّري في “المواقف والمخاطبات”، والمواقف نصّ فريد في التراث الصوفي الإسلامي حظي بعناية شرقية وغربية، فمنذ اكتشاف نسخة منها ونشرها على يد المستشرق الإنجليزي أرثر أربري ظلت شاغل الباحثين في الشرق والغرب، فأعيدت قراءة المواقف بشكل نقدي على يد عزيز عارف في العراق، وكانت عناية الأب بول نويا في بيروت وباريس بهذا النص عناية فائقة عايش النصّ بشكل حضّه على تتبع اللغة الصوفية والكتابة عنها وملاحقة تطورها في كافة النصوص بداية من النصوص الأولى المؤسسة كما يظهر ذلك في كتابه القيّم التأويل القرآني ونشأة اللغة الصوفية، ولعله إخلاصه لدرس التصوف هو ما مكّنه من اكتشاف نصوص نادرة للنفّري تعيد للمواقف ما فُقد منها، كما كان نشره لكثير من النصوص الصوفية المتعلقة بتفسير القرآن مساهمًا في تكوين رؤية شاملة لنظرة الصوفية إلى القرآن وأثر القرآن في إنتاجهم.
يصعب ألا نذكر هنا نصًّا هامًا يعدّ أهم موسوعة للمعارف الصوفية هضم كل ما سبقه من إنتاج السابقين وأعاد صياغته بلغة فيها من الذوق والنظر والشرح والرمز والفقه والأدب، ألا وهو كتاب “الفتوحات المكية”. شُغل الناس بابن عربي كما شُغلوا بالحلاج، ما بين محب مادح، وخِصم قادح، وكما فعل الكتّاب مع المعرّي محاولين استخراج نصوص تعبّر عن تمجيده لله والتزامه بالشريعة الإسلامية، أو استخراج كفريات تجعله خارج دائرة الدين، تم تناول إنتاج ابن عربي على هذه الصورة، وكُتبت شروحات بوازع المحبة لكتبه ولُخّصت فتوحاته، حالف البعض التوفيق في محاولته شرحًا أو تلخيصًا، وأخفق البعض، إلا أن دراستين يمكن أن نشير إليهما في هذا السياق يمكن اعتبارهما بابا جيدًا للولوج إلى عالم التصوف الأكبري، الأولى: هي سيرة كتبتها كلود عداس بتدقيق بالغ، وترجمها إلى العربية أحمد الصادقي، بعنوان: “ابن عربي سيرته وفكره”، وراجعتها وقدّمت لها مُحِبّة ابن عربي سعاد الحكيم، والدراسة الثانية: هي “بحر بلا ساحل” للعالم الفرنسي ميشيل شودكيفِتش، الذي قرأ فيها ابن عربي على ضوء القرآن الكريم، وأعاد فيها تركيب الفتوحات على ضوء معايشة وحياة لعمر مديد مع نصوص ابن عربي.
سيكون غريبًا بالنسبة لي وأن أحيل القارئ على مطالعة بعض مصادر التصوف الإسلامي والحديث عن بعض أعلامه ألا أتحدث عن مولانا جلال الدين الرومي وهو العاشق النوراني الذي جذب أنظار الجميع إليه وما من بلد أوروبي أو عربي ألا ويسعى أهله لاكتشاف عالمه. في الفترة الزمنية التي ألّف أتم ابن عربي فيها تأليف فتوحاته المكّية تقريبًا، وُلد الرومي المتحقق ولادته الثانية بعد أن أشرقت شمسه ونضج واحترق، وبإلحاح من مريديه ومحبّيه بدأ في إملاء “المثنوي المعنوي” ذلك الكتاب الذي حظي بعناية فائقة في ثقافات شتى، وفي بلداننا العربية بشكل خاص سعى الأساتذة في القرن الفائت لتقديم الرومي بشكل لائق، فعرّفوا بسيرته وقدموا جزءًا من أعماله نقلاً عن اللغة الفارسية، وأضحى الاهتمام به تقليدًا عربيًا تتوارثه التلامذة عن أساتذتهم، فمن مصر سطعت شمس الترجمة عن الفارسية ثم استمر الاهتمام بنقل آداب الأمم الإسلامية على يد من آمن بالرسالة العلمية التي حملها الآباء الأوائل؛ ونتجت عن ذلك أعمال كُتبت بمداد الحبّ والمعرفة والإخلاص، فبعد صدور مجموعة مقالات وترجمات عبد الوهاب عزّام في كتاب “فصول من المثنوي” صدر لمحمد عبد السلام كفافي كتابه: “جلال الدين الرومي في حياته وشعره”، وهو من أهم الكتب العربية التي صدرت في القرن الفائت، وتلا ذلك ترجمته للمثنوي وجزءًا من غزليات شمس تبريزي، أتمّ كفافي ترجمة أربعة مجلدات من المثنوي، جعلت تلميذه إبراهيم الدسوقي شتا يأخذ على عاتقه إتمام المهمة التي حاول إتمامها أكثر من دارس مصري، منهم الأستاذة إسعاد قنديل، التي ارتبط اسمها بكتاب “كشف المحجوب” للهجويري، فحاولت ترجمة المجلد الثالث من المثنوي، وطُبع بعد وفاتها، إلا أن الترجمة التي حازت شهرة ويتجدد طبعها كثيرًا هي الترجمة الكاملة لدفاتر المثنوي الستة التي جاءت بعد ترجمة الأستاذ شتا بكتاب حديقة الحقيقة لسنائي ومن يدرك أهمية سنائي كأب روحي للرومي، سيحصّل الكثير من المعارف عبر مدارسته لهذه الترجمة وما صاحبها من هوامش وشروحات.
يقتضي المقام هنا أن أوضّح أن من ذكرتهم من أعلام أو أشرت إلى بعض كتابات لهم أو عنهم مجرد أمثلة لطرق باب التصوف بشكل معرفي، والأمثلة التي يمكن طرحها أكثر من أن يتسع لها مقال أو كتاب!.
- باحث مصري متخصص في التصوف